الأحد، ١ أكتوبر ٢٠٠٦

أحلامنا المهترئة

ما جاء أدناه مهدى إلى سارة وقبيلتها التي لا أحد فيها سواها، أو لعلها قد استحوذت عليّ فلم أرَ أحدا سواها. هذه الهلاوس الكتابية لا تضاهي بأي حال من الأحوال ما كتبته هي قبل شهر، وأخاف أني بعد طول انتظار قد خيبت أملها في قراءة قطعة أدبية تستحق الوقوف عندها لبضع ثوان، لكنني آمل أن تعذرني حين تدرك أي عسر كتابي أمر بحضيضه حاليا. إهداء آخر إلى أولئك الفتيات، حتى وقد اضطررت لتغيير أسمائهن؛ إما حفاظا على خصوصيتهن، أو خوفا من أشقائهن!

تمتلك عائلتي أرشيفا كبيرا إلى حد ما من الصور الفوتوغرافية، وعدد لا بأس به من هذه الصور يعود إلى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. لا أستطيع أن أدعي أن أحدا من أفراد عائلتي كان مهووسا بالتصوير أو هاويا له، لكنني أستطيع الادعاء أن طفولتي ثم مراحل حياتي التي تلتها حتى اليوم قد تم توثيقها فوتوغرافيا بطريقة تدعو لبعض الفخر. بين فترة وأخرى، أهوى فتح الخزانة التي تخبأ فيها والدتي هذه الصور، لأنبش في الماضي وأوقاته. أعترف أنني حين كنت أصغر كنت لا أفهم ذلك الحنين الذي يمتلكه البالغون لكل ما مضى. كنت أقول لنفسي، وللآخرين أحيانا: لماذا تحن إلى ماضٍ ملؤه المعاناة والتعب فيما نحن نعيش عصر المعرفة والتطور؟ اليوم، وبالذات حين أقضي بعض الوقت متصفحا دفاتر الماضي، أصبحت أفهم هذا الشعور. أصبح من الطبيعي أن أصاب بلوثة حنين إلى أعوام كنت أحسب أني لا أريد أن أتذكرها بتاتا. والدتي لم تعد تسمح لي بأن أنبش أرشيف الصور كما أشاء، بحجة أن فيه صورا لإناث يحرم علي رؤيتهن الآن. تتملكني السخرية: هل كن عاريات حين أخذت لهن تلك الصور، أم أنني أنا كنت أعمى؟

في صورة ما، حين كان عمري ثلاثة أعوام، أظهر إلى جوار فتاة وقعت في حبها عندما أصبحت مراهقا، لكنها لم تعلم بأمري، ثم مضت لتتزوج شخصا آخر، وهي على وشك أن تنجب مولودها الآول قريبا. حين أنظر إلى هذه الصورة اليوم، أعجب كيف دفعت بنا الأيام سريعا لنصبح ما نحن عليه الآن. كيف أن قصة حبي الفاشلة تتكرر ألف ألف مرة كل يوم في مجتمعنا الذي لا يتعب من تكرار المحاولات المستميتة لدفع أبناءه وبناته لينضجوا قبل الأوان. تتكرر في الطريقة التي يصرخ فيها أب في ابنه: «خلك رجّال»، وأم في ابنتها: «منتِب مَرَة». نبلغ بسرعة أماكن لم يكن ينبغي لنا أن نبلغها بتلك السرعة، حتى نستيقظ فجأة من خضم الحياة اليومية السخيفة في معظم تفاصيلها بعد أن نكون قد أضعنا خرائطنا. بعضنا يستسلم لأن الوقت قد تأخر ولأسباب أخرى، وبعضنا يحاول جاهدا استعادة تلك الطفولة التي جُرِفت على عجل: بعض هذا البعض يقوم بذلك بالتركيز على مباهج صغيرة، فيما البعض الآخر يتطرف في ذلك إلى درجة الحماقة.

الفصل الحاد بين الجنسين في مجتمعنا جدير بأن يملأ الطرفين بالفضول حول ما يجري وراء الأسوار العالية. أتمعن في الصور أكثر، فيُنبِت الفضول التساؤلات في رأسي: هل لا زالت «ثِمَار»، التي عشقتها كمراهق مجنون، أجمل أترابها أم أن الأيام قد تفتحت عن وردة أخرى أشهى وأكثر ألقا؟ هل ظلت «تماضر» تكتب عن ولِحبيبها المجهول أم أنها بعد أن تزوجت في السابعة عشر دجّنت نصوصها في حظيرة زوجها المتحجر؟ ما الذي صار لِـ«لَمَى» وماذا حدث لكتاباتها التي لم أقرأ منها شيئا لأن شقيقها قد أغلق دفاترها في وجهي كما أغلق الأبواب عليها! ماذا عن بنت جارنا التي أحبت دائما أن تلبس اللون الأحمر تحت عباءتها اللا واسعة واللا ضيقة، والتي لم تمر من جواري يوما دون أن ترمقني بنظرة الـ«أنا لا أكترث لأمرك مطلقا» الفوقية؟ أتساءل عما يمكن أن حدث لفتاة طويلة القامة كنت أنا وابن خالتي نترقبها على عتبة الدار لنراها وهي تعبر الشارع في جولتها بعد ظهيرة كل يوم.

... والمزيد والمزيد من التساؤلات التي على ما يبدو من استغراقها في نوستالجيا زمن غير متكلف واستحالة استرجاعها، إلا أن كل ما تحتاجه لتقفز من مكامنها هو محفز صغير كالذي حصل نهاية الاسبوع الفارط: كنا أنا وابن خالتي نفسه قاعدين ننتظر طعامنا في «الطازج» حين دخلت فتاتان إلى المطعم، ووصلتا إلى نصف صالة تناول الطعام فأخذ العمال الآسيويون يصرخون فيهن أن قسم العائلات يقع في الجهة الأخرى. عادت الفتاتان أدراجهما للخارج، فقلت لابن خالتي بطريقة لا تخلو من تبرم: حتى لو دخلتا من الباب الآخر، فلن يُسمح لهن بالجلوس لأن لا محرم معهن. ابن خالتي لم يرد علي، وظل ساهما للحظات ثم قال: لا أعتقد أنهما دخلتا إلى هنا خطأً. إنه عبث مراهِقات! لعل إحداهما قالت للأخرى: «دعينا ندخل إلى هنا ولِنرَ ما يحصل»، وربما كانتا تغرقان في الضحك الآن. دُهِشتُ لتلك النظرية الشيطانية الظريفة، لكن بعد «عدم تفكير» قصير، بدت لي محتملة الحدوث إلى حد كبير.

رؤية الفتيات تجعلنا نتحدث عن الفتيات - ونحن نتحدث عنهن كثيرا علي أي حال - فيأخذني ذلك إلى حديث مع أمي دار قبل عام تقريبا. كانت تتكلم معي عن خطبة أحد أقاربي، فأخذت أنتقد الطريقة العقيمة التي تتم بها الزيجات في مجتمعنا؛ انتقاد أصبح من حولي يحفظونه عن ظهر قلب لكثرة ما رددته على أسماعهم. حين هممت بمغادرة الصالة، سألَتني: ما رأيك في «ندى»؟ قلت بهدوء وبطء ودون تردد: تبدو كفتاة طيبة. لم ترد علي، وأنا لم أزد شيئا. أمي لم تبدِ يوما اهتماما صادقا بشأن زواجي. لم أشعر أنها اهتمت أبدا متى سأتزوج، أو من هي «اللي أمها داعية عليها» التي ستتزوجني، أو كيف سأحيا حياتي بعد ذلك. هل أمي تهتم حقا في أعماقها بهذا الشأن لكن إخفاءها لهذا الاهتمام هو نوع من «قدرية» لم ألحظها فيها من قبل؟

أخيرا، صادق أمنياتي وخالص دعواتي لجميع الفتيات اللواتي مررن في ماضيَّ ثم مضين ليصنعوا من حياتهن شيئا ما. ولا عزاء لي ولبقية الفتيان، ولأحلامنا الوردية التي اهترأت، ونحن لا زلنا نجاهد لنصنع من حياتنا شيئا ما - مع ملاحظة أنني في حالتي على وجه التحديد لا زلت أواجه فشلا ذريعا حتى الآن -.

هناك ٤ تعليقات:

  1. غير معرف١/١٠/٠٦ ٢٣:٠٥

    حسنا يا أحمد، هذا كلام يبعث الحزن أكثر من أي شيء آخر!
    هل لك أن تعلم، أن 4 (صيفيات) مررن، وأنا أودع في كل منها رجلاً قال لي يوماً: أحبك!!
    لا أندم على ردي لهم، ولكني أتأمل زوجاتهم، وأقول: هل يعلمن؟

    لستُ نادمة، في وقت يحتويني أجمل قلب، وأجدني بين يديّ رجل لم أتمن في حياتي إلا هو، ورغم ذلك يحول بيننا مجتمع شرس، وحدود أقليمية بشعة..
    وما زلت أنا، وهو.. نستيقظ كل يوم من حلم نرجو أن يغدو حقيقة صباحاً ما!!

    ردحذف
  2. غير معرف٨/١١/٠٦ ٠٦:٢٤

    عزيزي صاحب هذه المدونة،،
    كنت أتجول رحالة بين صفحات الأنترنت أبحث عن ما يشفي جنون رغبتي في القرأة،، ولكنني وجدت مدونتك توجه لي أمراَ بالقرأة،، قرأت الموضوع الأول والثاني والثالث،، ووجدتني نفسي انتهيت من قرأة مدونتك راضية،، كل الرضا عن طريقة أسلوب عرضك للمواضيع،،
    اسمح لي أن اعبر في كلمة واحدة عن أسلوب كتابتك ألا وهو إنه أسلوب خرافي،، يدعو للتأمل،،
    شكراَ
    Lady of Faom & Bubble

    ردحذف
  3. لمست وتراً حساساً بهذه التدوينة .. فرحلتك إلى الماضي أعيشها يوميا مع أحلام اليقضة .. أدور في أحلامي بين حكايات كانت تبكيني وأصبحت تضحكني الأن

    :)

    ردحذف
  4. في منفاي الاسكندنافي.في جنوب السويد"في مدينة مالمو تحديدا" اشعل لك شمعة حب وعرفان. وانحني لعظيم جهدك وفرط نبلك فقد اعدت لي اياما هاربة متلاشية من طفولتي وصباي في وطني مصر (ومدينتي الاولى) بورسعيد . لك ايها السامر النبيل باقات الورود الحمر وظلال اشجار الكستناء السويدي العملاقة وهفهفات سعف النخيل المتجذر في القلب والشامخ الى السماء وقبلات اخيك أشرف المصرى,,,,

    ردحذف