السبت، ٢٤ أبريل ٢٠٠٤

رياح الظنون (قصة قصيرة)

ــ آلو.. أهلا، كيف حالك؟
ــ بخير. كيف حالك أنت؟
ــ لا أزال على قيد الحياة!
ــ ألا تزال متمسكا بهذا الجواب؟
ــ بلى، لا أزال على قيد الحياة.. لكني لم أعد متمسكا بها كثيرا! على أي حال، فقط اتصلت لأدعوك إلى موعد على طريقتي
ــ ماذا يعني ذلك؟
ــ لست في وارد أن أشرح لك ذلك على الهاتف. إن كان فضولك يأكل رأسك، والقطة يقتلها الفضول كما يقول الإنجليز، فاقبلي دعوتي وستعرفين معنى ذلك عمليا
ــ حسنا، أنا موافقة.. ولكن متى ينتهي الموعد؟
ــ هذا لا يصلح. فحسب الطريقة لا نحدد الأماكن ولا الأوقات، بل نجعل غرائزنا تقودنا طائعين إلى حيث لا ندري. ولا نفترق إلى حين نشعر بأن كثيرا من الكلام لم نقله بعد، وأننا سنلتقي مرة أخرى
ــ هذا يخيفني، لكن حدسي الأنثوي يدفعني إلى القبول بكل شروطك
ــ أنا لا أشترط شيئا. إنها أعراف لا أكثر. ولك مطلق الحرية.. التاسعة مساء؟
ــ حسنا.. التاسعة مساء

لم يشعر بوجوب التأنق إلى الحد الأقصى. اكتفى بارتداء بنطاله (الجينز) الأزرق المفضل وقميص أحمر حمل الرقم 7 من الخلف وعلى كمه الأيمن طبع الحرفان (DB)، ثم رش نفحتين من عطره Versaci Versus. حين وصل إلى الباب، توقف للحظة أمام المرآة. حرك شعره بيديه، ثم غادر الغرفة

الطريق الذي (يصل) بين منزله ومنزلها قصير، على عكس ذلك الطريق الذي (يفصل) بين منزله ومنزل حبيبته. ولفرط قصر الطريق لم يفكر في أي شيء أثناء مسيره المتمهل. حين وصل إلى باب منزلها دق منبه السيارة لثانية واحدة فخرجت ببطء خشية أن تتعثر في عباءتها حين تهبط تلك الدرجات المعدودة بعد باب المنزل. أخذت مقعدها فيما كان صوت عمرو دياب وأولئك النوبيين يأتي من الخلف بخفوت: (عودوني عليك أحيك.. عودوني وعلموني هواك) ـ

ــ السلام عليكم
ــ وعليكم السلام
ــ متى وصلت من تلك المدينة؟
ــ خرجت من جحيمها في الثالثة. وصلت هنا عند السادسة والنصف
ــ تكرهها إلى هذه الدرجة؟
ــ لا، أنا لا أكرهها
ــ طريقة كلامك لا توحي بذلك
ــ لولاها لما كنت أرتدي هذه الثياب
ــ لكنك قلت مرة عنها أنها مدينة تناصبك العداء
ــ لكنني لا أبادلها العداء
ــ هل هي ضرة؟!
ــ هي (كذلك) فعلا، بل هي (ذلك) أصلا

كان قد وصل إلى ذلك الشارع الذي يحفل ببعض المطاعم في جانبيه، وبكثير من السيارات في وسطه. لكن أكثر ما يثير حنقه فيه هو إشارة ضوئية يعتقد أن مدتها تتجاوز المعقول

ــ ما رأيكِ أن نتناول عشاءنا في "الطازج"؟
ــ لا بأس
ــ إن كنتِ تفلين مكانا آخر...
ــ لا، لا.. لم آتي إلى هنا منذ فترة

كان المطعم مزدحما كما يحصل عادة في نهايات الأسبوع، لكنه لم يلق بالا للزحام. لديه صلات جيدة مع العاملين في المطعم وسيوفرون له الطاولة التي يشاء. تلك المطلة على الشارع بالتحديد
أثناء تناول الطعام تحدثت هي كثيرا، وصمت هو أكثر. ليس لأنه ليس عنده ما يقوله، ولكنه يحاول التظاهر بأنه مستمع جيد. كانت قد لاحظت صمته، بيد أنها حاولت أن تستدرجه إلى شرك الكلام بدلا من سؤاله عن سبب صمته
حين عادا إلى السيارة لم يقد أكثر من نصف دقيقة ثم أوقف السيارة في مكان قريب. كانت تلك اللافتة الوردية مميزة جدا: "باسكن روبنز". حين عرفت المكان، زمت شفتيها وقالت بلهجة باسمة:

ــ إنها ليلة لذيذة
لم يكن بإمكانه أن يلتحف بالصمت أكثر. قال:
ــ أتدرين أني أقول لنفسي أحيانا: (بما أن اللذات زائلة، فلم لا نستزيد منها بقدر ما نستطيع؟)
ــ أنت من قال لي ذات مرة: لا توجد لذة خالصة. اللذة غالبا ما يرافقها الألم
ــ هذا لا يعني أن لا نستزيد. الألم قربان ضئيل

أخذا المثلجات ومضى بالسيارة إلى شارع يمكن أن يسير فيه على مهل دون أن يزعجه أحد. رفع طرفا من لحاف الصمت:

ــ أعرف فتاة تحب "باسكن روبنز"!
وابتسم ربع ابتسامة. قالت:
ــ وتحب "الطازج"؟
اختفت ابتسامته:
ــ كثيرا
التفتت إليه. نظرت في عينيه:
ــ ألا زلت تحبها؟
ــ لا أدري. ربما أكثر من ذي قبل
ــ ألم نتفق على النسيان؟
ــ اكتشفت شيئا: في الحياة أمور لا تنسى
ــ لكنها الآن مع آخر
ــ لا شأن لي. لا يستطيع الآخر أن يمنعني من حبها ولا يستطيع أن ينسينيها
ــ لم أعرف أحدا يحب بكل هذا الحب
ــ أنتم لم تعرفوا الحب إلا على الشاشات. حين ترون شيئا من الحب في أرضكم فإنكم لا تصدقون أنكم رأيتموه. تغمضون أعينكم

صمتت. فكرت فيما قاله. وأخذت رياح الظنون تصفق أبواب العقل في رأسها. وجدت نفسها تقول له بانفعال لم تستطع ولم تحاول إخفاءه:

ــ ماذا تريد مني؟!
كان هادئا. هادئا جدا:
ــ لا أريد شيئا. أنا لم أطلب منك شيئا
ــ هل تريد أن أحضر حبيبتك إلى عندك لتقول لك توقف عن هذا؟!
أعاد إجابته بذات الهدوء على الرغم من إنفعالها الشديد:
ــ لا أريد شيئا. أنا لم أطلب منك شيئا
هدوءه أخمد نار انفعالها ببطء. أخذت تتنفس بعمق لدقيقة أو اثنتين:
ــ أنا آسفة. لم يكن لي الحق في الصراخ عليك، لكنني بحق خائفة عليك. لا يمكن أن أدعك هكذا. سأفكر في الأمر مرة أخرى

حين أنهت عبارتها تلك لم تتغير ملامح وجهه، حتى حين كان عمرو دياب يغني أغنية يحبها كثيرا: (ما حبيتش غيرك وأعمل إيه في شوقي وهوايا...)

ــ هل من الممكن أن تعيدني إلى المنزل
ــ بكل تأكيد