الاثنين، ٢٥ صفر ١٤٢٩ هـ

جذوة الكلام

«هل ألقيت عليها التحية أم ظللت أحدق فيها فقط؟» قال سهيل لنفسه بعد أن رأى إيلاف. «كيف تغيرت هكذا؟ لم تعد تلك الفتاة النحيلة التي عرفتها حين كنا مراهقين». كانت لحظات قليلة تلك التي احتاجتها إيلاف لعبور عتبات المنزل ثم الباب، لكنها بدت لسهيل كعمر مرّ من أمام عينيه، ومن خلفه.

* * *

عندما دخل مكتبه كان عقله مقسوما بين إيجاد الرسالة وإيجاد قرص مدمج جمع فيه بعض الأغنيات من سني مراهقته. بدأ يبحث عن القرص في أناة مثلما يبدأ متصوف في صلاته. لم يجده في الجارور الأول، ولا الثاني، وامتلأت يداه بغبار يكرهه قبل أن يجده في ركن قصي من الجارور الثالث. كان اسم القرص Eyes of the Oryx. مسح الغبار عن القرص مستخدما بنطاله ذي الزرقة الفاتحة ووضعه في المشغل، ثم تراجع إلى وسط الغرفة وارتمى على الصوفا البرتقالية مثلما ترتمي موجة على رمل شاطئ.

أخذته نقاوة الموسيقى على حين غرة، لكن صوت المطرب بدا معتقا بعد كل تلك السنين: «غبت والشوق طول.. حبي لك ما تحول.. يا ليت ترجع حبيبي.. محتاجك أكثر من أول..». تذكر الرسالة. هو متأكد أنها في أحد الصناديق المصطفة في ركن الغرفة، لكنه لا يعلم أي صندوق على وجه التحديد. يتمنى أحيانا لو أنه يفرغ هذه الصناديق حتى يصل إلى ما يريده من محتوياتها بسهولة، لكن يمنعه خوفه من أن تمتد يد أحدهم إلى ورقة كل ما تحتاجه هي لمسة بشرية لتتحول إلى مارد. هو لا يخاف من ماضيه ولا يخجل مما اقترفه في سني جموحه، بيد أنه يخاف مردة الورق حين تخرج في غير أزمانها.

تركت عيناه الصناديق لتجول في أنحاء الغرفة تتفحص محتوياتها مثل طفل دخل للتو إلى محل الألعاب. الرفوف الغاصة بالكتب. الإطارات المعلقة على الجدران. إطار يحوي صورة طفولته المفضلة حين كان ولدا سمينا أبيض، وثان يضم صورته حين كان عمره أربعة أعوام ممسكا بكأس عصير أمام بحيرة الفلامنغو في حديقة الحيوانات بالرياض. قطعة السجاد التي كانت تحتل وسط غرفته أيام الجامعة مثنية بإهمال في الركن المجاور للباب. إلى جانب الباب هناك إطار آخر. إطار خشبي أزرق في وسطه قصاصة جريدة. أنه أول نص نشر له في صحيفة محلية. حصل ذلك حين كان مراهقا، وشعر أنه لم يفخر به كما يجب. «أليس غريبا أن زوجتي لم تسلني أبدا لمن كتبتُ هذا النص؟ هي تعلم بالتأكيد أنه لم يكن لها. هل تعتقد أنه ليس موجها لأحد؟! غريب كيف تمر بعض الأمور دون ملاحظتنا لها».

أُجهدت عيناه من الدوران في أنحاء الغرفة، فأغمضهما ثم فتحهما على طاولة القهوة أمامه حيث يستلقي هاتف كلاسيكي بلونه البيج الباهت من تلك النوعية التي كانت أرامكو تهديه لموظفيها في نهاية الثمانينات. يعشق سهيل هذه الأشياء التي يسمونها retro ولا يبدو أنه يكترث كثيرا لافتقاد هذا الهاتف كل ميزات الهواتف الحديثة من إعادة الاتصال وحفظ الأرقام. هو متعلق كثيرا برنينه الذي يعيد رسم صور من صغره في مخيلته، وبوزنه الثقيل الذي لا يسمح له بإطالة المكالمات كما يشاء.

رؤية الهاتف ساكنا في مكانه أغرته بارتكاب ذنب لم يقترفه منذ زمن. قرر الاتصال بإيلاف فعاجلته ذاكرته برقم منزلها. تفاجأه ذاكرته التي ما فتأ ينعتها بالضعف حين تستعيد بعض قطع الماضي بسرعة. يقول: «بعض الأشياء لا نحفظها في الذاكرة، بل نحفظها في قلوبنا». أخذ الهاتف في حجره، لكن قبل أن يبدأ في طلب الرقم هبت في رأسه لفحة تفكير: «ماذا لو لم ترد هي علي؟ بل حتى ماذا لو ردت هي علي؟ ماذا سأقول لها؟» كالعادة، يجيد العاشقون اختراع الأعذار. «سأقول أني أريد الكلام مع أخيها». حجة حمقاء لكن لم يبد أن ذلك سيكون مشكلة لأنه لم يكن عقلانيا أبدا. هو لم ير أخيها الذي يصغرها قليلا منذ أن تركوا الحي، لكنه متأكد أنه لا يمكن أن يكون في المنزل في هذا الوقت من اليوم لأنه يعلم أنه يعمل مع أبيه في متجر للملابس.

هل كان يخدع نفسه أم كانت نفسه تخدعه؟ لا يدري على وجه التحديد، لكنه مستغرب كيف تنطلي خدع من هذا النوع على أي كان. أعاد تركيز نظره على أزرار الهاتف البلاستيكية. اندهش كيف استطاع أن يضغط الأرقام بذات السرعة التي اعتادها في الأيام الخوالي. «آه.. حسنا.. إنه يرن»، قالها لنفسه بلا صوت. مع كل رنة كانت نبضات قلبه تتسارع، مثلما كان يحدث أيام اختبارات الثانوية العامة. شعر أن أنفاسه تجمعت في حلقه وسدته تماما. ابتلع ريقه حتى يتمكن الهواء من الدخول وتتمكن الكلمات من الخروج. كان يخشى أن لا ترد و... جاء صوتها مثل شعاع ضوء نفذ من كوة في روحه. صافيا، دافئا، دافقا، لم يتغير، تماما مثلما كان.

- «آلو...»

أحس بقطرات العرق تنساب على فوديه. التفت إلى الخلف، ونظر إلى جهاز التكييف الذي بدا يبتسم ساخرا لأن سهيلا نسي تشغيله. لم يكن بحاجة لمزيد من عدم الارتياح، فأخرج كل كلماته دفعة واحدة وبسرعة كما لو كان يكفر بكل مقدساته: «آلو.. مساء الخير، إيلاف.. كيف حالك؟». شعرت إيلاف أن تلك التحية العجلة قد فتحت في داخلها خزانه أضاعت مفتاحها منذ زمن بعيد. تذكرت صاحب الصوت الذي رأته قبيل الغروب، وتذكرت مكالماته التي كان دوما يبدؤها مرتبكا، ثم يعمه الارتياح شيئا فشيئا. ترددت في الرد. كانت متشككة قليلا: «سـ.. سهيل؟» حاول تطمينها، وجاء صوته رطبا بفعل عرق الارتباك: «نعم، سهيل. كيف أنت؟ هل أنت على ما يرام؟»

- بخير.. كيف حالك أنت؟ مضى زمن طويل، أليس كذلك؟
- بلى، لكن الزمن مهما طال غير قادر على أن يفقد بعض الأشياء جدتها.. أو حدتها.

لاحت ابتسامة في صوتها حين تذكرت كيف كان يصفها بحدة الطباع بعض الشيء.

- مع مرور الزمن هناك أشياء تتغير وأخرى لا تتغير. يبدو أنك لم تتغير.
- أنتِ تغيرتِ بعض الشيء. لكن اللون الكستنائي يليق بك كثيرا.

فوجئت بملاحظته، وبدت المفاجأة جلية في الكلمة التي قالتها بعد صمت دام بضع ثوان.

- ماذا؟!
- كانت خصلة من شعرك منسابة إلى جانب عينك اليمنى في فتحة النقاب. هل لا زلت تصففينه بهذه الطريقة؟
- عدت إلى تصفيفه هكذا مؤخرا فقط..

غمرهما الصمت لثوان ليست قليلة. شعرا أن جذوة الكلام قد خبت في داخلهما. حاول الأخذ بزمام الحروف فلم يعرف، وحاولت أن تعقل كلماتها في جملة واحدة فلم تستطع. كان أمرا غريبا. أحس سهيل بالغرابة فحاول استرجاع حكاية من الحكايا التي اعتاد أن يحكيها لها في الماضي. خانته ذاكرته. ارتبكت إيلاف فلم تدر ما القول أو العمل. قرر سهيل إنهاء الصمت بأي شكل حتى لو كان ذلك بإنهاء المكالمة. قال مع تنهيدة خرجت من صدره كما تخرج الروح من الحلقوم: «حسنا.. كان من الجميل سماع صوتك بعد كل هذه المدة.. أكلمك لاحقا.. مع السلامة.» ردت رإيلاف ببطء شديد: «مع.. السـ.. ـلامـ..ـة». عاجل بإغلاق الخط. بدا كمن يحاول إبطال قنبلة. رفع الهاتف من حجره ووضعه إلى جانبه، ثم ظل ساهما لبضع دقائق يحدق في لا شيء.

* * *

انتبه على طرق الباب، وأطلت زوجته برأسها دون أن تفتح الباب كاملا: «هل تود تناول العشاء الآن؟» للحظة ظن أنه لم يسمعها وكاد أن يقول: «هه؟» لكن بعد ثانية أدرك ما قالته زوجته. نهض وهو يهمهم: «أنا قادم يا عزيزتي...».

هناك ٣ تعليقات:

  1. أحببت الحوار التلفوني و وصف الارتباك كثيرا، تستطيع أن تقدم شيئا جميلا و لكني أرى قدرتك على التعبير أقوى من قدرتك على الحكاية، تحتاج إلى حكاية و حبكة، هل سمعت بطريقة قطع الثلج في الكتابة؟

    ردحذف
  2. شيءٌ في النص لم يقنعني بأن الرجل متزوجٌ بالفعل. ثمة شيءٍ في ردود أفعاله، في عزوبية وفوضوية وانعزال الغرفة التي يقطنها، أو في كوننا نتذكر الزوجة عرضًا في النصف ثم نفاجأ بها في النهاية. نحتاجُ أيضًا أن نلمس بشكل خفيف المشكلة التي يعانيها البطل في حياته، هل هو مرتاحٌ في علاقته الحالية، لماذا انتهت علاقته السابقة بإيلاف. فقط قليلٌ من الضوء هنا وهناك دون أن تحرف مسار القصة عن تصاعد لحظة الهاتف.
    سوى ذلك، أنا مندهشة جدا من سلاسة النص، من جدَة لغته، وسلامتها في آنٍ معًا. أنت كاتبٌ سلس، ومقتصد، وتنتبه للتفاصيل الصغيرة التي تؤسس بشكل جيد لشعورنا بالمكان وإبصاره خلال الشخصية الرئيسة. لقد حبست أنفاسي وأشعرتني تمامًا بعوالج كلا الطرفين: إيلاف والبطل.

    ردحذف
  3. غير معرف١٩/٤/٢٩ ١٩:٥٩

    رغم اني اعرف ان هذا ليس الا نصا ادبيا الا انني لااعرف لماذا يصر البعض في السعوديه على ربط الكتابه الادبيه بالتمرد والغزل والمراهقه! على فكره لو كان لك بنت في سن الثانويه او الجامعه لما سرك ابدا ان تقيم علاقه وان تواعد.هذا ان كنت شخصا طبيعيا.

    البعض منا يؤيد اشياء لن يعيش حتى يرى اثارها السيئه على المجتمع وعلى نسله هو. نخرب بيوتنا بأيدينا بكل اسف.

    ردحذف