الاثنين، ٢٥ صفر ١٤٢٩ هـ

حين تعادي المدينة الأصدقاء

يحكى أن شابا وشابة كانا يعيشان في مدينة تسمى الرياض. هي كانت جميلة و«بيتيت» ومن عائلة معروفة وميسورة. هو كان من عائلة عادية جدا وإن بدا مدللا كابن عائلة ثرية. وكم كان يكره الافتراضات التي يضعها الآخرون عنه بناء على المظهر الخارجي. يقول: «إن كنت لا أبخل على نفسي بشيء فهذا لا يعني أني ولدت وفي فمي ملعقة من فضة». أما هي فكانت تكره الذهاب إلى المناسبات الاجتماعية حيث يمكن أن تلتقي بصديقات طفولتها. تقول: «لا يحق لهن أن ينظرن إليّ نظرة دونية لمجرد أن آباءهن جنوا أموالا أكثر من أبي لأنه كان مهتما بأمور أخرى غير الريالات». كرها أشياء كثيرة. كانا ثنائيا متذمرا بامتياز.

لعل دبي ليست مدينة رومانسية، لكنها كانت المدينة التي شهدت لقاءهما الأول. تحديدا، في «فيرجين ميغا ستور» في «دبي سيتي سنتر» حيث امتدت يمناه ويسراها في الوقت نفسه لالتقاط آخر نسخة على الرف من ألبوم «كمنغ هوم» للمغني الأميركي ليونيل ريتشي. ربما كان من الغريب أن يريد شابان في بداية عشريناتهما شراء ألبوم لمغن عتيق مثل ليونيل ريتشي، لكن معظم من يعرفهما يدرك أن الغرابة ليست صفة غريبة عنهما. يمناه التي أحاط بمعصمها رباط نحيف من قماش أخضر سبقت يسراها التي توشى خنصرها الأيسر بخاتم ذهبي أنيق.

على الفور رفعت رأسها والتقت عيناها بعينيه. لم يبتسم. مد ذراعه ناحيتها وبين أصابعه ذلك الغلاف البلاستيكي الشفاف الذي يحتضن السي دي. «تفضلي». «لا خلاص خليها معاك». «لا.. خذيها». «لا ما يحتاج». «لا والله لازم تاخذيها». لم ترد أن يتحول الموقف إلى مشهد تقليدي لسعوديين «يتعازمان» فأخذتها وشكرته، فرد بعفوية «لا شدعوه؟ ما سويت شي؟» فيما كانت ابتسامة صغيرة ترتسم على ملامحهما معا.

لم يكن موقفا يستحق التفكير فيه، فهي جميلة لكنها ليست صارخة الجمال، وهو لم يكن وسيما بل كان عاديا على الرغم من ملابسه الأنيقة من دون تكلف.

كان يتقاسم طاولة مع صديق في صالة الطعام بالمجمع حين لمحها تجلس على بعد ثلاث طاولات إلى اليسار مع فتاة أصغر سنا. كان مشغولا بتناول «الباستا»، وحين شعر بامتلاء بطنه أسند ظهره إلى الكرسي والتفت نحوها على مهل. الابتسامة الصغيرة التي نبتت على شفاها حين لاحظت التفاتته شجعته على العبث معها رغم أنه ليس من النوع العابث على الإطلاق.

بحث سريع عبر البلوتوث: من الواضح أنها هي «أم حجاب أخضر». وصلتها رسالة من «ملك الضواحي»: «لا تشعري بالذنب عثرتُ على نسخة أخرى. إن أردت الحديث عن الألبوم يوما ما في المستقبل البعيد وغير المنظور فهذا هو رقمي...». حين رفعت رأسها لتنظر إليه لم تجد أحدا عند الطاولة. استغربت لأنها اعتقدت دوما أن شباب بلدها يتعلقون بتلابيب عباءة الفتاة مثل غبار الرياض.

عادت هي إلى الرياض، وسبقها هو إلى ذلك لأن ميزانيته لا تسمح له بأكثر من بضعة أيام في مدينة أصبحت باهظة إلى حد لا يطاق. خطرت على باله لمرات قليلة فيما تبقى من إجازة عيد الأضحى فيما لم تتذكره هي إلا حين كانت تنظف محتويات جوالها استعدادا للعودة إلى الدراسة. رأت رسالته فارتسمت في رأسها حالا صورة لقاءهما المقتضب في دبي. كتبت له: «عذرا على الإزعاج، فقط أردت أن أقول أن الالبوم أعجبني كثيرا». حين وصلته رسالتها كان هو منغمسا في قراءة «شقة الحرية» لغازي القصيبي. قرأ الرسالة وأهملها لأنه لم يكن يريد أن يقطع استغراقه في القراءة. كان أكثر ما يهوى في الإجازة قدرته على الاستغراق في القراءة لأيام متواصلة دون يعكر صفوه أحد.

أغلق باب شقة الحرية بعد يومين ثم رد عليها برسالة من كلمتين فقط: «أعشق التفاصيل». كم هو غريب عدم اكتراثه، حدثت نفسها، بعد انتظار يومين يرد بكلمتين فقط! لم تدرك أن الفضول كان يتملكه هو الآخر ليعرفها لكنه تعمد أن يثير فضولها نحوه بالتجاهل والغموض. ابتلعت الطعم وتوالت الرسائل بينهما: هو مندهش من حماستها وهي مندهشة كيف يمكن لشخص على هيئته أن يكون فلسفيا. بالكاد مضى أسبوع على الرسالة الأولى حتى بدا أمر اتصاله بها حتميا. كانت لمّحت له غير مرة إلى ذلك، لكنه لم يظهر اهتماما كبيرا حتى ظنت لوهلة أنه قد لا يفعلها أبدا، فيما كانت حماستها تعصف بها لسبر أغوار الولد الذي رأته في دبي. لكنه، وكمن يُدفع إلى باب الآخرة دفعا فعلها أخيرا. لم يكن صوته عميقا ولا خشنا، وإن بدا فيه جرح غائر. أما هي فكان في صوتها طفولة تتمسك بها صاحبتها في زمان يعجل بصغاره نحو المشيب.

تحدثا مرات كثيرة. تحدثا مطولا. لم تكن مدة أي من مكالماتهما أقصر من ساعتين في معظم الأحوال. لكن لم يحسب أي منهما أن بينهما شيئا مميزا، والحق أن الرياض مليئة بأمثالهما ممن يعطرون سماءها بكلماتهم التي تتطاير عبر الأثير آناء الليل وأطراف النهار.

لم يكن يعتبر أن الحياة منطقية، ولم يكن يرى من داع لِمَنطقتِها، لكن حسب الترتيب المنطقي للأمور فإن ما يتبع المكالمات الهاتفية الطويلة هو اللقاء. بعد فترة من المكالمات على الهاتف تتخفف الأصوات من عباءة وطأتها، والشعور بحضور آخر في حياة الواحد منا يصعب في غياب أي شيء سوى صوته. حين سألها عن رأيها ردت: «أنت وأنا نعلم أن الأمر ليس سهلا». لم يشأ أن يضغط عليها حتى لا يبدو كبائس محروم، لكنه تجنب التحدث معها لبعض الوقت، أيضا ليس بقصد أن يضغط عليها، ولكن ليشعرها بخيبة أمله. كانت تتطلع إلى لقاءه أكثر منه لكنها لم ترد أن تجعله يشعر بذلك، وهو تصرف يليق تماما بفتاة مدللة مثلها.

لكن في النهاية، رغم كل المعوقات، كان لا بد للقاء أن يتم، ولأنهما يعيشان في الرياض فلا بد من خطة محكمة: اقتضت الخطة أن يلتقيا بداية في «حوار غاليري» في الطابق ٥٢ من برج المملكة حيث يقام معرض فني لفنانين سوريين، ثم يهبطان إلى فندق «الفور سيزونز» في البرج نفسه للجلوس في زاوية قصية من بهو الفندق الراقي بعيدا عن الأعين الفضولية. رغم تشاؤمه الجلي وتسارع دقات قلبه خوفا من أن يحدث سوء، إلا أن كل الأمور سارت على ما يرام. هي الأخرى كانت خائفة، لكن ما إن استغرقا في الكلام حتى نسيت خوفها تماما.

حين غادرت لم تعده بلقاء آخر، وهو لم يسألها إن كان سيراها مرة أخرى، رغم أنه بدأ يفكر كيف سيكون اللقاء القادم حتى قبل أن ينتهي لقاؤهما الأول. بقي هو في مكانه وأكمل شرابه، ثم غادر بعد أن أغدق على النادل الفلبيني بإكرامية سخية بدا أثرها واضحا في الابتسامة الواسعة على وجهه الطفولي. لاحقا تلك الليلة، أرسلت له رسالة: «قضيت وقتا رائعا، شكرا على الموعد الجميل». رد عليها وهو على مستلق على سريره في انتظار نوم قد لا يأتي: «أنا كذلك، لكن ألا يصلح هذا الموعد ليكون جزءا من فيلم جيمس بوند المقبل؟ تصبحين على خير».

رغم كل المحاولات الطموحة واليائسة على حد سواء، لم يبد أن لقاء آخر يلوح في الأفق. السعادة التي بدأت تطفح على وجهها بعد ذلك اللقاء جعلت أمها ومن وراءها شقيقتها الكبرى تشكان في أمرها وتشددان الرقابة عليها. أما هو، وإن كان يرى أن الأمر يستحق العناء، إلا أنه لم يكن واثقا أن الأمر يستحق المخاطرة فيما لو أوقعهما سوء الحظ في قبضة من يدعون أنهم حراس الفضيلة وحماة المجتمع. حب؟ لم يكن هنالك حب - ليس بعد على أي حال - لكنهما اعتقدا أن شيئا طيبا ربما يخرج من تلك الصداقة.

انقطعت المكالمات ثم الرسائل. وجدها بعد زمن على «الماسنجر» وهو الذي نادرا ما يستخدمه. سألها إن كانت الحياة لا زالت تحسن إليها فأجابت أنها بخير، وسألته عن حاله فقال إنه لا يزال على قيد الحياة. انتابتهما لوثة حنين، لكنهما سرعان ما فضلّا كلام الحاضر والمستقبل على كلام الماضي. كان خيارا صائبا.

هناك ١١ تعليقًا:

  1. غير معرف٢٥/٢/٢٩ ٢٢:٢٦

    لأن هذه المدينة مدينتي، وأعرف خفاياها جيداً، فإني أعلم شراستها، وأدرك نوبات حنانها القليلة، والغامرة في آن..
    أحببت هذا النص، أحببته، لأنه تلمس ملامح الأصدقاء الذي يوشك أن ينال منهم الحب، قبل أن يتراجع وينحسر..

    أذكر منذ زمن تساءلنا: أيمكن للأحباب أن يعودوا أصدقاء؟ أرعبتنا الفكرة، ولم نسألها مرة أخرى!!

    ردحذف
  2. غير معرف٢٧/٢/٢٩ ١٥:٤٢

    salut; cette histoire vraiment me fait chaut au coeur

    ردحذف
  3. أيمكن للأحباب أن يعودوا أصدقاء؟ أرعبتنا الفكرة، ولم نسألها مرة أخرى!!

    ردحذف
  4. غير معرف٦/٣/٢٩ ١٣:٣٨

    قصة تجيش بالعاطفة والمشاعر المختبئه خوفاً من الشدة والمستقبل ..

    نص عذب وحروف نقية

    متلهف للمزيد من كتاباتك [ العربية] ..

    كُنْ بخير

    ردحذف
  5. لم أحبها أبدا!!هل هكذا يكون الحب الآن؟ دائما ما تساءلت عن حب الرجال، و الغريب أنه يبدو دائما مثل قصص جمس بوند فيه كثير من رغبة التفوق و حب الاكتشاف، فيه حب النفس و ليس الآخر، هل هي مدينة الرياض أو نسيجنا السعودي الذي زرع الخزف و الحذر والذي جعل الشباب لا يحبون؟

    ردحذف
  6. هي قصة .. ولكنها أشبه شيء بمن يحكي سيرته ، وبين وبين السيرة والقص خيط أبيض اسمه الخيال ، هي نوع من السرد الذاتي ، والحكي في الممنوع ، وهذا رائع بحد ذاته .
    يبقى طعم القصة في فمي بسبب ترديد حروفها بصوت مسموع ، لن أفرش أسناني هذه الليلة كي لا أفتقد طعمها ، وهو ما أود ان يبقى !!

    ردحذف
  7. غير معرف٢/٤/٢٩ ٠٥:٥٤

    رغم اني اتحاشى النصوص الطويلة ، خاصه ع الساعه 6 صباحاً ..
    لكن لسبب او لآخر ، ما ان أمسكت ببداية حرفك .. حتى وجدتني انهيته باندماج..

    و اتسائل .. كيف لـ رجل المنطقة الشرقيه .. سبر أغوار (الرياض)..!

    جميل يا أحمد

    .
    .

    ردحذف
  8. غير معرف١٩/٤/٢٩ ١٩:٥٢

    رغم اني اعرف ان هذا ليس الا نصا ادبيا الا انني لااعرف لماذا يصر البعض في السعوديه على ربط الكتابه الادبيه بالتمرد والغزل والمراهقه! على فكره لو كان لك بنت في سن الثانويه او الجامعه لما سرك ابدا ان تقيم علاقه وان تواعد.هذا ان كنت شخصا طبيعيا.

    البعض منا يؤيد اشياء لن يعيش حتى يرى اثارها السيئه على المجتمع وعلى نسله هو. نخرب بيوتنا بأيدينا بكل اسف.

    ردحذف
  9. غير معرف٢٦/٤/٢٩ ٠٠:٣٣

    أحمد .. نص رائع
    لا أكذب تخيلت نفسي أعيش داخل تلك الحروف تحت سماء هذه المدينة الحالكة بظلمتها والناشفه لجوها !

    رغم أنه نص أدبي ..
    أعتقد أن الصداقه بين الجنسين ماهي الا مصيدة لتجاذب جنسين في علاقه آخرى غير الزواج !

    ردحذف
  10. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  11. "لكنه تجنب التحدث معها لبعض الوقت، أيضا ليس بقصد أن يضغط عليها، ولكن ليشعرها بخيبة أمل"

    لا أدري إن كنت محقّاً ..
    لكنني أعتقد أن شعورها بخيبة الأمل نوع من الضغط عليها !

    قصة جـميلة ومـمتعة عزيزي ..

    ردحذف