الخميس، ٧ شعبان ١٤٢٧ هـ

الرجال مظاهر

قبل عام تقريبا، قررت أن لا أقص شعر رأسي، وأن أجعله ينمو على سجيته لبعض الوقت. بعد ستة أشهر من ذلك، غيرت تسريحة شعري كي تناسب طوله الجديد. هذا التغيير في المظهر الخارجي فاجأ معظم الأقارب، لكن أحدا منهم لم يملك شيئا ليقوله حول هذا الأمر. بعد ذلك بفترة، علمت من أمي أن جدتي وعمي غير راضيان أبدا عن شعري الطويل، لكنهما لم يكلماني حول هذا الأمر، وهو شيء أحسبه لهما. الشخص الوحيد الذي كلمني حول الأمر هو خالي الذي يسكن جدة، وكان قد جاء إلى الشرقية لقضاء إجازته مع العائلة. هل كنت أظن أن حياته في مدينة متحررة إلى حد ما ستجعله ينظر بطريقة مختلفة عن التقليديين من أقاربي؟ لا، لكنني لم أتوقع أن يقوم بمناقشتي حول الموضوع. أيضا، أحسب له أنه ناقشني بهدوء، ثم قال لي أني مسؤول عن تصرفاتي وواع بمصلحتي. لا أريد هنا أن أسجل التلميحات التي سمعتها حول هذا الأمر، لأن عددها لا يحصى، ولأنني لا أكترث كثيرا لمثل هذه التلميحات. اليوم قررت أنه قد جاء وقت التغيير، فقمت بقص شعري الطويل. عدت إلى المنزل، حيث كان الأقارب مجتمعون بمناسبة خروج شقيقي الأصغر من المستشفى بعد عملية جراحية. حالما دخلت للسلام، فوجئت بعاصفة عارمة من الفرح والاحتفاء والزغاريد. لم أكن أدرك أن شعري الطويل كان السبب في أزمة قلق عائلية، ولم أتوقع أن قصه سيتحول إلى احتفالية أنستهم شقيقي المريض.

المغزى من هذه الحكاية؟ المغزى هو أن مجتمع الفضيلة الذي أعيش فيه، والذي لا يمل من تكرار التبجح بترابطه وتماسكه، وارتقائه عن المجتمعات الأخرى (الحيوانية) في الغرب والشرق، وبعاداته وتقاليده البالية في نصفها والعديمة المنطق في نصفها الآخر، كان يعيش حالة من القلق العصابي بشأن قصة شعر على رأس أحد أفراده الأقل أهمية. بكل صدق، أستغرب ذلك التركيز على المظهر الخارجي للإنسان في مجتمعنا، بدلا من التركيز على ما هو أهم مثل أخلاقياته أو طريقة تعامله مع الآخرين. فجدتي - أطال الله في عمرها - ورغم أني أحد أكثر أبناءها وأحفادها برا بها - بلا مبالغة أو غرور - لم تغفر لي قصة شعر، واحتفلت بتخلصي منها كما لو كنت ضالا وقد اهتديت. خلال الشهور القليلة الماضية ظهرت صوري في الصحف عدة مرات، وتمت مقابلتي في وسائل إعلام مختلفة، ونشرت مقالة لي في مجلة؛ حصل كل هذا، ولم يكلف أي شخص من هؤلاء نفسه أن يهنئني أو يجاملني بكلمة لطيفة، لكن عندما قصصت شعري غمرت باحتفاء لم يكن على البال. أشعر بالإحباط. ألا يحق لي ذلك؟

السبت، ٢ شعبان ١٤٢٧ هـ

عن الإرشاد الروحي

استضاف برنامج على إحدى الفضائيات أحدا من يلقبون بكبار العلماء في بلد خليجي، وكان الشيخ يجيب على تساؤلات المتصلين واستفتاءاتهم. لا أشاهد عادة هذا النوع من البرامج، لكن شيئا ما أنساني أن أغير القناة. بينما أنا كذلك، اتصل رجل وقال للشيخ أنه يحبه في الله، فرد عليه ردا مناسبا، ثم أخذ الرجل يطرح تساؤله - الذي يبدو أنه قد أقلق راحته وسلب النوم من عينيه -: أنا رجل متزوج، وقد رزقني الله بستة أطفال، لكن ثلاثة منهم قد توفوا نتيجة لمرض وراثي. والآن أنا محتار، هل أواصل محاولة إنجاب المزيد من الأطفال، أم أكتفي بما رزقني الله؟ رق قلبي لمصاب الرجل، خصوصا أني أعرف امرأة تعاني الحرمان من الولد نتيجة لمشكلة وراثية. توقعت من الشيخ أن يصبر الرجل، ثم يوجهه بأن يراجع المختصين بأمر كهذا - أي الأطباء - لكي يسدوا له النصح والمشورة المناسبة في هذا الشأن، ويدعو له بالموفقية والهداية. شيخنا الجليل لم يفكر للحظة واحدة، بل رد على الفور: «واصل محاولة الإنجاب وما عليك، وكل شيء بمشيئة الله». حوقلت. اللهم لا اعتراض، ونعم بالله، ولكن...

لست مختصا في الدين، ولا أريد الخوض في مسائل الفتوى وما شابهها؛ لكن بعض ما أقرؤه وأسمعه يدفعني دفعا إلى طرح الأسئلة: ما فائدة كل ما راكمته الإنسانية من العلوم والمعارف إذا كان أحد الشيوخ قادرا على إلغاء كل هذا بكلمة واحدة ودون أن يقدم أي سبب واضح؟ أعلم أن لدينا من الشواهد والأدلة ما يحضنا على الزيادة في النسل، لكن قبل هذا وبعده هناك الكثير من الأوامر الإلهية التي تدعونا إلى التأمل وإعمال العقل، وحساب المصالح والمفاسد قبل إطلاق أي حكم. ماذا لو أخذ الرجل بنصيحة الشيخ وواصل محاولة الإنجاب، ورُزِق بعشرة أطفال، ثم توفوا جميعا نتيجة لذلك المرض الوراثي؟ سيقول الشيخ للرجل إن هذا قضاء الله وقدره. آمنا بالله. لكنه تبارك وتعالى قال أيضا: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة).

لا أدري إن كان شيخنا الجليل على علم أم لا، لكن الطب في أيامنا هذه قد تطور إلى درجة كبيرة جدا. يستطيع أخونا المتصل أن يذهب الطبيب المختص، وسيقوم الأخير بإجراء الفحوصات اللازمة له ولزوجته، وبعد دراسة نتائج هذه الفحوصات يستطيع إخباره باحتمالات نجاة أطفاله من عدمها - بعد مشيئة الله طبعا -. إن كان لا يعلم عن هذا، فقد جنى على الرجل إذ أفتى له فيما ليس له به علم؛ أما إن كان يعلم وتجاهل الأمر لأنه لا يستطيع أن يرد على سائل بأنه لا يعرف وأن عليه مراجعة أهل الاختصاص، فتلك جناية أعظم. هل يعاني مشايخنا الأجلاء، مع كامل احترامي لهم، من مشكلة تمنعهم من التصريح بقصور معرفتهم في مجال ما وبالتالي إحالة السائلين إلى غيرهم؟ ربما كان الرجل المذكور أعلاه جاهلا ولم يعرف لمن يوجه سؤاله، لكن ألم يكن حريا بالشيخ الذي ينتسب إلى من يسمون بأهل العلم أن يرشد الرجل إلى المكان الصحيح ليجد الجواب الشافي؟

سمعنا عن التحذير من التجرؤ على الإفتاء، وسمعنا عن توجهات لتقنيين الفتاوى، لكن ما أراه أمامي هو أن سيل الفتاوى لا يزال جاريا رغما عن كل شيء. لست ضد برامج الإفتاء على التلفزيون رغم كثرتها، فربما كان بعض الناس عاجزين عن إيجاد الإرشاد الروحي من غير هذا الطريق، لكن جلسة واحدة قصيرة أمام أي من هذه البرامج كافية لإثارة الكثير من التساؤلات والأعصاب. فبعض الأسئلة التي يطرحها المتصلون فيها تفصيلات وبحاجة إلى تأن ودراسة، لكنني أفاجأ بالمفتي يرمي بجواب مبتسر وسطحي. كذلك، لا يراعي كثير من مفتي الفضائيات الفروق بين المجتمعات الإسلامية المختلفة، هذا غير ما يتعلق بالجاليات المسلمة في أنحاء العالم المختلفة. ما سبق ليس إلا غيضا من فيض، لكنني أشعر أنني قد أطلت الحديث، ولربما عدت إلى هذا الموضوع في وقت آخر وفي غير موضع. هدانا الله وإياكم، وهو من وراء القصد.

الاثنين، ٢٠ رجب ١٤٢٧ هـ

ثلاثة كتب

ما كان من المفترض أن يكون «صيف القراءة» لم يكن كذلك إلى حد كبير. كنت أريد أن أقرأ المزيد من الكتب خلال الشهرين الماضيين، لكن بين كأس العالم، ثم الحرب على لبنان، كان من الصعب إيجاد المزاج أو الوقت اللازم للقراءة. حتى الآن قرأت ثلاثة كتب، وأنا على وشك إنهاء الكتاب الرابع خلال هذا الأسبوع. ما يلي ليس تقييما موضوعيا لهذه الكتب بقدر ما هي خواطر وانطباعات، والمساحة مفتوحة للجميع ليدلوا بدلوهم حول هذه الكتب إذا ما كانوا قرأوها، أو ليسدوا النصح بشأن كتب مشابهة.

فسوق لـ عبده خال
هذه الرواية تحكي قصة التحقيق في مصير فتاة رميت بالخطيئة في سن مبكرة، ثم ماتت في ظروف غامضة. القصة تبدأ بعد وفاة الفتاة، وذلك حين وجد أهلها قبرها منبوشا ولم يجدوا جثتها في مكانها. قد لا تكون أحداث الرواية على قدر كبير من التشويق، لكن الفضول لمعرفة مصير الفتاة دفعني إلى مواصلة القراءة حتى النهاية. لا أريد أن أفسد عليكم متعة القراءة، لكن دعوني أقول: إن خاتمة هذه الرواية مخيفة. على صعيد متصل، فإن هذه الرواية أيضا لم تسلم من هجوم المحافظين الذين اتهموا الكاتب بتعمد انتقاد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا الانتقاد جاء على لسان أحد الشخصيات الذي وصف الهيئة بأنها «دولة داخل دولة، وإن لم تقلص صلاحياتها، فسنجد نفسنا في حرب بين دولتين، نكون نحن ضحاياها». مقطعي المفضل من الرواية جاء على لسان نفس الشخصية، ولكن في موضع آخر، حين قال: «عندما تخاف من قول رأيك، فأنت لا تستحق أن تعيش... حين خلقنا الله خلقنا أحرارا... حرية مطلقة. وعلى الجميع أن يحافظ على هذه الهبة من دون نقصان». أعجبني أيضا قوله: «فقد الحرية يفقدنا المساواة. والمساواة تفقدنا العدالة. وضياع العدالة يجعل الظلم شخصا مجسدا».

صحوة إيران لـ شيرين عبادي
حين فازت شيرين عبادي بجائزة نوبل للسلام عام 2003 لم أعرف عنها الكثير، سوى أنها محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان. وقعت على هذا الكتاب ـ بالنسخة الإنجليزية ـ صدفة في زيارة لفرع مكتبة جرير في مركز الراشد بالخبر، وترددت في اقتنائه لإني لم أقرأ عنه شيئا من قبل، لكنني في ثوان حزمت أمري وأخذته. لا أستطيع وصف الكتاب بالسيرة الذاتية، وهو أقرب ما يكون إلى مذكرات شخصية تدون فيها عبادي مراحل مختلفة من حياتها وتبدي فيها آرائها حول المتغيرات التي أثرت في تلك المراحل سياسيا وثقافيا واجتماعيا. كشخص لم يعش أحداثا غيرت المنطقة مثل الثورة الإيرانية ثم الحرب العراقية الإيرانية فإن هذا الكتاب قد فتح عيني على العديد من الأمور التي لم أدركها من قبل. الكتاب يحفل بالحوادث المؤثرة بداية من صدمة عبادي حين وجدت اسمها على قائمة الاغتيالات حين كانت تحقق في إحدى الجرائم السياسية، ثم حكاية إعدام شقيق زوجها الذي سجن حين كان في السابعة عشر بتهمة بيع صحف معارضة ليحكم عليه ظلما بعشرين عاما في السجن لكنه لم يكمل ذلك الحكم لأنه أعدم بعد سبع سنوات قضاها داخل الزنازين، وانتهاء بالاستقبال التاريخي الذي حظيت به المؤلفة حين عودتها بعد فوزها بالجائزة العالمية. شيرين عبادي، المعارضة التي فضلت البقاء في بلادها حين قرر معظم أصدقائها الهجرة، لا توفر النظام الحاكم من الانتقادات الشديدة، ولهذا فإنها لم تملك خيارابشأن نشره الكتاب في إيران. لكنها فوجئت حين علمت أن قرار المقاطعة الأميركية لإيران كان يمنع الناشرين الأميركيين من نشر كتاب لمؤلف إيراني، فما كان منها ـ وبمساعدة ناشرها ـ إلا أن رفعت قضية على الحكومة الأميركية بناء على المادة الأولى من الدستور الأميركي التي تكفل حرية التعبير، واستطاعت ربح هذه القضية. تقول عبادي في الفصل الأخير لكتابها: «خلال الاثنين وثلاثين عاما الماضية، من اليوم الذي جردت فيه من منصبي كقاضية حتى السنوات التي خضت فيها المعارك في محاكم طهران الثورية، كررت قولا واحدا: تفسير للإسلام يتناغم مع المساواة والديموقراطية هو تعبير صادق عن الإيمان. ليس الدين هو ما يحجم النساء، إنها انتقائية هؤلاء الذي يريدون حبسهن في صوامعهم. تلك القناعة، مع اقتناعي بأن التغيير في إيران يجب أن يأتي سلميا ومن الداخل، كانت الأساس الذي بنيت عليه جهودي».

حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية لـ عبد الله الغذامي
المؤلف هو أحد أهم النقاد الأدبيين والمفكرين في المملكة، وكتابه هذا هو شهادة شخصية على الأطوار التي انتابت دخول مفهوم «الحداثة» إلى المشهد الثقافي السعودي الذي يخرج من رحم مجتمع محافظ جدا، إلى درجة أن هذه المحافظة ليست صفة ذاتية فحسب بل هي أيضا مطلب من الآخرين. كنت أتوقع أن تكون قراءة هذا الكتاب مملة، لكنها لم تكن كذلك. قد لا يكون هذا الكتاب ممتعا، لكنه قراءته كانت خفيفة وسهلة حتى على شخص مثلي ممن يعش كثيرا من الفترات الزمنية التي يتحدث عنها الكاتب. بداية الكتاب كانت مشوقة، لكن ذلك التشويق أخذ يزول مع تقدم الفصول، خصوصا حين أخذ الكاتب منحى شخصيا أكثر من اللازم من وجهة نظري. أحد الأجزاء التي أعجبتني في الكتاب هو الجزء الذي يكتب فيه الغذامي عن الطفرة وآثارها على المجتمع السعودي. يقول: «لو أننا عمدنا إلى إسناد مهمة إنجاز التطوير إلى أيد عاملة منا لكنا حققنا التنمية وتجنبنا الطفرة، وصارت العمالة السعودية هي الرديف الموازي للعقل السعودي المخطط، ولنمت قيم العمل متصاحبة مع قيم التغيير والتحديث. ولكن انفصاما حدث حينما تركنا العمل اليدوي والمهني الإنجازي لأيد مستجلبة من الخارج، وتحولنا نحن إلى سادة نأمر ونجبي، ولكنها سيادة من ورق وليست سيادة من عرق الجبين، أي أنها ليست سيادة على الذات والظرف، وهذا جعلها سيادة مؤقتة بل سيادة وهمية شكلية».

السبت، ١٨ رجب ١٤٢٧ هـ

في الفخر والحماسة

حين فازت السعودية بكأس آسيا عام 1984 كان عمري ستة أشهر ونصف بالتمام والكمال. جمعت المباراة النهائية السعودية والصين، وتغلبت السعودية بهدفين سجلهما شايع النفيسة وماجد عبد الله، في مباراة جرت في أجواء ماطرة في عاصمة سانغفورة. كانت تلك المرة الأولى التي تحقق فيها المملكة إنجازا في كرة القدم؛ لذلك يتذكر عشاق كرة القدم في السعودية هذا التاريخ دوما بحنين خاص، وأعتقد أن صوت علي داود وهو يهتف: «ماجد عبد الله كسر الطقم الصيني كله» لا يزال يتردد صداه في الآذان. بعدها بأربعة أعوام حققت المملكة كأس آسيا للمرة الثانية على التوالي، حيث أقيمت النهائيات في قطر، وجاء الفوز على حساب كوريا الجنوبية بضربات الترجيح. صورة الكرة وهي تتهادى ببطء إلى المرمى إثر تسديدة فهد الهريفي الأخيرة لا تزال عالقة في ذاكرتي رغم مرور السنين.

ما سبق، كان استعادة لذكريات شخصية وليس قراءة في كتب التاريخ. وعيت على سحر كرة القدم باكرا لأن أبي كان عاشقا كبيرا لكرة القدم، وذكرياتي الآنف ذكرها كان أساسها شريط فيديو كان والدي يحتفظ فيه بتسجيل للمباراتين التاريخيتين. شاهدت ذلك الشريط مرارا وتكرار، شاهدته مئات المرات. وفي كل مرة كنت أشعر بلذة الانتصار نفسها، وفي كل مرة كنت أطرب على صوت عبادي الجوهر وهو يغني «جاكم الإعصار ما شي يعيقه...». لم يورثني أبي كثيرا من صفاته، لكنني ورثت عنه حب كرة القدم بكل تأكيد. كانت إحدى أمتع الأوقات تلك التي أقضيها إلى جانبه وهو يروي لي قصص الانتصارات للمنتخب، وكيف كان هو وأصدقائه يقطعون مسافة 170 كلم من الأحساء إلى الدمام على ظهر دراجة نارية مهترئة لحضور المباريات. لم يكن والدي قلقا لشغف ابنه المتزايد باللعبة الشعبية الأولى في العالم، لكن خوف الأب في قلبه لم يسمح لي بممارسة مغامرات شبيهة بتلك التي قام بها أيام شبابه.

لكرة القدم بعد اجتماعي لا يحتاج معه الملاحظ جهدا كبيرا لرؤيته؛ أكان ذلك في أطفال الأحياء الفقيرة الذين يجتمعون كل يوم للعب في الحواري والشوارع، أو في مناسبة عالمية كبرى يصرف عليها، وينتج عنها، بلايين الدولارات مثل كأس العالم. ورغم أني لم أمارس كرة القدم كثيرا أثناء طفولتي بسبب اعتلال صحي لم يكتشفه الأطباء إلا متأخرا، لكن مجرد عشق اللعبة كان كافيا ليضمن لي التواصل مع الآخرين فقد كنت طفلا عنيدا، بيد أن كرة القدم كانت إحدى الأمور القليلة التي لا أعمل عنادي فيها. الطريقة التي توحد بها الكرة الناس هي مثار اهتمام العديد من المراقبين، فكيف يمكن لمن تفرقهم الأجناس والأعراق والأديان أن يتوحدوا خلف أحد عشر رجلا يركلون الكرة؟ إنه سحر كرة القدم بلا شك. المملكة لا تمتلك مناعة ضد هذا السحر، والسعوديون الذين يأتون من بلاد مترامية الأطراف، من أصول مختلفة وتوجهات متنوعة، كلهم توحدا لمساندة منتخبهم الذي شارك في كأس العالم التي جرت في ألمانيا مؤخرا، في مشاركة هي الرابعة من نوعها في تاريخه.

لا شك أن هذه الوحدة تتأثر بالانتماءات التي يرتبط بها السعوديون، ومع مرور الزمن، تكون عندي إحساس بأن السعوديين يقدمون انتماءهم الديني على انتماءهم الوطني. لا غرابة في ذلك، خصوصا في بلد لطالما تغنى أهلها بأنها بلاد الحرمين، وبأن ذلك يمنحهم أفضلية - أراها وهمية - على حساب بقية المسلمين. قبل ثلاثة أعوام، ضرب الإرهاب قلب الرياض، فتغيرت الكثير من الأمور. أحد المتغيرات كان الصعود الملحوظ للروح الوطنية لدى السعوديين، وذلك أيضا مفهوم كرد فعل طبيعي على الخطر الذي يتهدد الوطن، ولأن الإرهابيين حين قاموا بجريمتهم كانوا يدعون حمل لواء الدين والدفاع عنه. أعتقد أن صعود الروح الوطنية لدى السعوديين، بغض النظر عن سببه المذكور آنفا، هو شيء إيجابي، لكنني أيضا لا أحبذ أن تطغى هذه الروح عن الحد المعقول لأن طغيانها قد يقودنا إلى التعامي عن الواقع، وهو أمر بغيض وغير محمود العواقب.

هل يمكن ربط هذا الصعود في الروح الوطنية بذلك الاصطفاف الكبير حول المنتخب أثناء رحلته للصعود إلى كأس العالم؟ بعد الخروج المذل للمنتخب من الدور الأول لكأس العالم 2002 بدا أن الكثيرين قد فقدوا الأمل في المنتخب، خصوصا أن نتائج المنتخب في كأس آسيا 2004 ثم دورة الخليج التي أقيمت في قطر لم تكن مشجعة على الإطلاق. مع هذا، استطاع المنتخب تجاوز المباريات الأولى في تصفيات كأس العالم 2006 بنجاح، وما بدا حلما صعب التحقيق بعد الخروج المذل بات أقرب إلى الواقع. تبقت مبارتان للمنتخب في التصفيات: أمام الكويت ثم أوزبكستان، وخلال الأيام القليلة التي سبقت المباراتين تصاعد الحماس الوطني عند الناس إلى درجة غير مسبوقة. هذا الحماس تمكن من حشد ما يزيد على 140,000 متفرج تابعوا المباراتين في مدرجات استاد الملك فهد الدولي: تجمع يندر مشاهدته في هذا البلد حيث تمنع المظاهرات حتى السلمية والمؤيدة منها.

أعتقد أن هذا التوحد خلف المنتخب هو السبب أيضا في تحول كثير من الأغنيات التي تم إعدادها لمساندة المنتخب إلى أغنيات وطنية أكثر منها رياضية؛ فأغنيات مثل «يا سلامي عليكم يالسعودية» لراشد الماجد قد سكنت في وجدان الناس حتى من غير المهتمين بكرة القدم، وأعتقد أن أغنية راشد الفارس الأخيرة «عاشت بلادي» هي أيضا مرشحة للانضمام إلى هذا النوع من الأغنيات، خصوصا وهي تتضمن عبارات من نوع: «وحدة كلمتنا.. وهي عز قوتنا.. نجد وتهامة.. أهل الشهامة.. عاشت بلادي.. يحق لي أفخر بك يا أغلى الأوطان.. نورك عم الدنيا من قديم الزمان.. قبلة أمتنا أنتي يا عزة للإنسان.. من لامني في حبك يا بلادي غلطان.. عاشت بلادي». إن هذه الروح الوطنية المتمثلة في الوقوف خلف المنتخب هي ليست وطنية زائفة، لأنها ناتجة عن شغف حقيقي: كنت أعرف ذلك دوما، لكنني تأكدت منه حين رأيت إخوتي الصغار يتحلقون حولي لمشاهدة مباراة المملكة ضد تونس، ومن الطريقة التي كانت أمي تسألني بها عن نتيجة المباراة.