الأحد، ٢ ربيع الآخر ١٤٢٧ هـ

من الرياض إلى عَمّان

عزيزتي ربى،

أنتِ لستِ الوحيدة التي مرت بهذه المأساة. نحن نتكلم هنا عن ملايين الفتيات والفتيان العرب الذين نشؤوا «يحتقرون» لغتهم بفضل المعلمين السيئين؛ أنتِ فتاة ذكية، ولا أظن أنكِ كنتِ لتواجهي مشكلة في دراسة اللغة العربية لولا أن لكِ معلمة سيئة. هذا يعيدني إلى ماضٍ يبدو سحيقا اليوم، وتحديدا خلال دراستي في الصف الرابع الابتدائي، نفس الوقت الذي بدأت فيه قصتك. أتذكر أن معلم اللغة العربية أخبرنا شيئا بدا لي خاطئا (لطالما امتلكت أذنا حساسة للأخطاء اللغوية. أستطيع إدراك الأخطاء، وأستطيع تصحيحها، حتى لو لم أكن أعرف القاعدة اللغوية)، فأخبرتُه أن ما قاله ليس صحيحا. بدون أن يحاول حتى إعادة التفكير فيما قاله، أمرني أن أصمت. تضايقت كثيرا، وكنتُ محبَطا، فعدت إلى المنزل وأخبرت أبي على الفور عما حدث. أبي، الذي اختار اللغة العربية كتخصص فرعي أثناء دراسته في كلية المعلمين، كان غاضبا لما حصل لابنه الصغير، لكنه لم يظهر هذا الغضب أمامي، لأسباب وجيهة لم أدركها إلا عندما كبرتُ وأخبرني بهذه القصة.

أخبرني أبي أني كنتُ على صواب، وأمرني أن أحاول البحث عن القاعدة اللغوية التي تدعم كلامي، وأن لا أتكلم مع المعلم بهذا الشأن مجددا. لاحقا، ذهب أبي إلى مدير المدرسة ليناقش معه المسألة. المدير تفهم شكوى والدي، وأخبره أن المشكلة هي أن هذا المعلم هو أصلا خريج كلية الزراعة، ولمّا لم يجد وظيفة في تخصصه اتجه إلى سلك التعليم، الذي أصبح في فترة من الفترات مهنة من لا مهنة له نتيجة للطلب المتزايد على المعلمين بسبب النمو السكاني السريع والهائل الذي شهدته المملكة. المدير وعد أبي بأنه سيتخذ التصرف اللازم تجاه ما حصل، وبالفعل قام لاحقا بتحويل ذلك المعلم ليقوم بتدريس مواد أقل أهمية للصفوف الدنيا.

لكن، ليس هذا ما جعلني أحب اللغة العربية. ربما لم أكن لأهتم بالقراءة والكتابة أصلا، فضلا عن اللغة عربية كانت أم إنجليزية، لولا أنني حظيت بمعلم عظيم أثناء دراستي في المرحلة المتوسطة. ففي العام الذي التحقت فيه بمدرسة الحديبية المتوسطة – والتي كانت تتمتع بسمعة سيئة! – جاء إليها معلم جديد للغة العربية. كان «مصطفى العقيلي» يأتي من إحدى القرى، ولم يكن هذا ليسبب مشكلة لنا كطلاب على أساس أننا مررنا بكثير من المعلمين من قرى ومناطق مختلفة، لكن الفرق هو أن هذا المعلم الجديد لم يحاول أن يخفي لهجته، بل كان يتفاخر بأصوله القروية، مما أثار استغرابنا إلى درجة ما. بيد أن هذا كان كافيا لجذب انتباه مجموعة من المتعجرفين على أعتاب المراهقة من أمثالي! من مميزات المعلمين الجدد هي أن لا تاريخ سابق لهم في المدرسة، وبالتالي لا يقوم الطلاب بإعداد تكتيكات دفاعية لمجابهته.

على عكس معلمي اللغة العربية الذين مروا بي سابقا، والذين كانوا يركزون على حصة القواعد ويهملون حصة الإنشاء (التعبير)، كان مصطفى العقيلي يولي الإنشاء اهتماما لا يقل عن ذلك الذي يوليه القواعد. أصبحت حصة الإنشاء حصتي المفضلة في المدرسة، لأن المعلم لمّا يكن يأتي إلى الصف ليعطينا موضوعا من عنده، يكتب عناصره على السبورة ثم يطلب منا الانتهاء من كتابة الموضوع مع نهاية الحصة كما يفعل المعلمون الآخرون. ما كان يحدث هو الآتي: في الحصة الأولى من كل عام، كان يأتي ويجلس معنا ليسألنا عن الموضوعات التي نود الكتابة عنها، ونتناقش حول ذلك حتى يضع هو قائمة أولية بالموضوعات التي قد نتناولها لاحقا. لم نكن نتكلم عن الموضوعات التقليدية كالمخدرات وأسبوع الشجرة، ولكن كنا نبحث عن أشياء مثيرة كالتجارب الشخصية، وتناولنا موضوعات مهمة كالحوار بين أفراد المجتمع حتى قبل أن تقرر الحكومة بدء جولات الحوار الوطني بسنوات طوال.

في الأسابيع التالية، يختار المعلم موضوعا ونبدأ النقاش حوله. خلال النقاش يطرح أسئلة، يخبرنا قصصا، يقدم أفكارا، ويقترح علينا الرجوع لبعض المصادر الخارجية. يحصل كل طالب على فرصة كافية ليشارك، ويطرح آراءه بكل حرية، وفي الغالب يدلي كل بدلوه إلى الحوار. عادة يستمر النقاش لأسبوعين أو ثلاثة – وأحيانا أكثر –. بعد أن يشعر المعلم بأن الموضوع قد استوفى حقه من الحوار، يطلب منا أن نكتب بدون أن يضع قيودا حول أسلوب الطرح أو عدد الكلمات. وعادة ما نقوم بتسليمه بعد أسبوع تقريبا.

نظرا لأنني كنتُ أقرأ أكثر من أقراني في ذلك الوقت، أو، لا.. حسنا، دعيني أصغ ذلك بطريقة أخرى: نظرا لأني كنتُ أقرأ، فيما لك يكن أحد من أقراني يقرأ، لفت ما أكتبه انتباه معلمي، فشجعني لأقرأ أكثر وأكتب أكثر، حتى خارج نطاق المدرسة. ذلك التشجيع لم يقتصر على الكلمات فحسب، بل قام أيضا بإهدائي عددا لا بأس به من الكتب التي أصبحت فيما بعد نواة مكتبتي الشخصية. أتذكر بالذات يوم أهداني «المعجم الوسيط»؛ كان هدية غريبة من نوعها، لكن لها طعما خاصا الآن. على أن دعمه لي لم يقتصر على هذا، فهو أيضا قد ساعدني على اجتياز فترة عصيبة من مراهقتي، ثم استمرت علاقتنا حتى بعد أن تخرجت من المرحلة المتوسطة، وأصبحنا أصدقاء الآن. ولا أخفيكِ أن الأمر لم يخلُ من غرابة في البداية، فجميع أصدقائي باستثناءه هم في مثل سني تقريبا، ومسألة تحول العلاقة من علاقة معلم بطالب إلى علاقة صداقة ليست مسألة تقليدية يمر بها الإنسان كل يوم.

أوه، ربى، هل لا زلت تقرئين؟ أم أن الملل قد أصابك منذ زمن فتركتِ هذا المكان إلى غير رجعة؟ آسف، اعذريني أن أطلت عليكِ الكلام، فقد استطردتُ وأغرقتكِ بتفاصيل قد لا تهمك في شيء، لكن ماذا أفعل إن كان للذكريات مذاق حلو على لسان من يسترجعها؟ ما أريد قوله باختصار هو: إن معلما رائعا قادر على أن يخلق فينا الموهبة، كما أن معلما آخر فاشلا قادر على أن يخنق فينا موهبة أخرى. أنا لا أفترض هنا وضعك في موقع الضحية، لكن صدقيني بأني بقدر ما أغضب أحيانا حين أرى فتاة مبدعة وذكية مثلكِ تعاني من مشكلة في التعبير عن نفسها بلغتها الأم، فإنني ألتمس لك العذر الصادق، خصوصا حين أنظر حولي، وأرى الآلاف ممن درسوا اللغة العربية أضعاف ما درستِها أنتِ، ومع ذلك لا يستطيعون كتابة جملتين مفيدتين، أو قراءة سطرين دون أن يرتكبوا أخطاء مخجلة.

أرجو أن لا تظني للحظة أني أجاملك هنا: بالنسبة لمن يحاول الكتابة للمرة الأولى، فإن ما كتبتِه جيد جدا، وهذا من جمال القدر لا من سخريته. باستثناء كلمة (اللإملاء) التي احتوت على لام إضافية في البداية، فإن الأخطاء القليلة الأخرى التي ارتكبتِها هي أخطاء لغوية شائعة جدا، مثل وضع الهمزات، وكلمة (ذلك) التي تحتوي ألفا تنطق ولا تكتب. لا تقسي على نفسكِ، ولا تلُميها، فأنا إن تعلمت من الحياة شيئا فهو أن اللوم والندم لا ينفعان لشيء. المهم هو أنكِ قادرة على الاستمتاع بهذه اللغة بأي شكل من الأشكال: الكتابة، أو القراءة، أو الرسم، أو الموسيقى، أو أي شكل آخر يروق لك؛ فالغرض من التعلم في النهاية هو المتعة، وما قيمة الأشياء، ما قيمة الحياة إن لم نستمتع بها؟ أتمنى في النهاية أن لا تلقي بالا لمن يرددون بأن من لا يستخدم اللغة العربية يعاني من ضحالة الفكر والثقافة وانعدام الثقة بالنفس، لأن كل هذا محض هراء. إن من يفخر بلغته وثقافته ليس بحاجة إلى إلقاء التهم جزافا على الآخرين ما لم يكن هو يعاني من أزمة هوية وانعدام الثقة ليس بالنفس فقط، وإنما بالعالم كله من حوله.

واسلمي لأحبابكِ،
ــ أحمد

هناك تعليق واحد:

  1. Ahmed, your post made me smile. You are right- learning a language is about enjoying a culture, but isn't it fascinating how a childhood occurance will affect the way a person percieves something for years to come?

    I don't think I ever had a good Arabic teacher :)

    ردحذف