مدخل
يكاد عام يكتمل على رحيل والدي. ورغم سؤال أحد الأصدقاء الدائم حول إن كنت كتبت شيئا حول هذا الأمر، إلا أنني لا أعلم ما الذي كان يمنعني من الكتابة. الكلمات التي سطرها أبناء عمتي مؤخرا حول الأمر حرضتني لمحاولة تذكر ما دار قبل عام تقريبا. ذاكرتي حول تلك الفترة مشوشة، وربما كان من المفترض أن تخرج هذه الكلمات على هيئة نصوص قصيرة منفصلة، بدلا من سكبها على هذا النحو. لكن هذا ما كان، وما سيكون.
كان يوم أربعاء، وكنت عائدا من الرياض على متن القطار. وصلت إلى الأحساء بعد الثالثة عصرا بقليل. كنت في المحطة أنتظر قدوم شقيقي ليقلني إلى المنزل حينما هاتفني أبي. قال لي أن أذهب لأخذ تذاكر الأسبوع القادم التي قام هو بحجزها لي بنفسه، كما يفعل عادة. لم أدرك حينها أن تلك المكالمة كانت آخر ما سأسمع من صوته. جاء أخي، وتوليت أنا قيادة السيارة إلى المنزل على مهل. وصلنا المنزل، وصعدت الدرج ببطء لأني كنت أريد مفاجأة شقيقي الأصغر، محمد.
ما إن دخلت الصالة حتى رأيت أبي ممددا إلى جوار الجدار حيث يتناول غداءه عادة، وإلى جواره أمي، وابنة عمي، وبعض أخوتي. رميت حقائبي على الفور وأمي تصرخ: (تعال أحمد، شوف أبوك ما يرد علي). جلست عند رأسه. رفعت رسغه بيدي محاولا استشعار النبض في عروقه، لكنني أدركت أني لن أتمكن من الإحساس بشيء لأن صوت نبضاتي المتوترة كان يضرب في رأسي بعنف ويمنعني من التركيز.
دخل ابن عمي الأكبر، صلاح، وأمرنا أن نحمله بسرعة. قمنا أنا، وصلاح، وشقيقي حسن بحمله إلى سيارة صلاح. لا أعلم إن كان جسده ثقيلا، أم أننا كنا أوهن من أن نحمله في تلك اللحظات. أم أنني أنا كنت الوحيد الذي أحس بالثقل لأنني لست معتادا على حمل الأوزان؟ لقد كان أبي دوما يمنعني من حمل أي شيء ثقيل. كان هو يتولى حمل قناني الغاز، وقوارير المياه، ولم يكن يسمح لي بأن أفعل ذلك أبدا. بل كان يؤنبني حين أفعل ذلك دون علمه. حتى حين يكون عائدا من السوق، فإنه دائما ما كان يعطيني أخف الأشياء لحملها، وحين أحاول حمل المزيد كان يؤمرني بالانصراف على الفور.
حين وصلنا إلى باب المنزل، كان عمي عباس قد وصل. وضعناه في المقعد الخلفي، وجلس عمي إلى جواره مسندا رأس أبي إلى كتفه. انطلقنا على الفور إلى (مستوصف الزهراء). أدخلناه على كرسي متحرك، ثم وضعوه على سرير في إحدى الغرف. وقفت إلى جواره أراقبه، لكن الطبيب أمرني أن أنتظر في الخارج. جلست على أحد المقاعد المقابلة للغرفة. كنت أنظر إلى الأرض متحاشيا النظر إلى الغرفة التي كان بابها مفتوحا، ثم وجدت نفسي أبكي. لا، لم أعتقد أنه قد مات بعد، لكنني كنت خائفا من فقده. كنت خائفا جدا. جاء حسن إلى جواري وأمرني أن لا أبكي، فلم أرد عليه، ولم أتوقف عن البكاء.
خرج عمي وصلاح من الغرفة واتجها إلى باب الخروج من المستشفى وأمرانا باللحاق بهما، فأدركت أن الأمر قد انتهى. الحقيقة التي كانت أبكي خوفا منها قبل لحظات لطمتني على وجهي. في المقعد الخلفي للسيارة، أنا وحسن، أسند كل منا رأسه إلى زاوية وانخرطنا في البكاء. حين وصلنا إلى المنزل لم أقو على الدخول. جلست على الأرض أمام باب منزل عمي، مستندا إلى مقدمة سيارة أبي، ولبثت أبكي هناك. فقدت إحساسي بالوقت. لا أعلم كم بقيت في ذلك المكان. ظللت هناك واضعا رأسي بين ركبتي، وشعرت كأن غشاوة على عيني تمنعني من النظر إلى أي شيء.
جاء زوج عمتي، (عمي أبو باسم)، رفعني من على الأرض، واحتضنني وهو يبكي. ثم التفت إلى أحد الأطفال وأمره بأن يفتح المجلس كي يدخلني. أسندني إلى كتفه وصعد بي عتبات الباب، وخطا بي ببطء نحو المجلس. كنت أشعر أني لست قادرا على حمل نفسي، وبالكاد شعرت بقدمي تخطان على الأرض وهو يسير بي. بعد أن أجلسني على الأريكة وخرج، وجدت جسدي يهوي على الأرض. كانت دموعي تنهمر بلا توقف وأنا منكب على وجهي. أخرجت جوالي من جيبي، واتصلت بابن خالتي محمد. (محمد، أبوي مات)، قلت له هذه الكلمات وسط عبراتي، وأغلقت على الفور.
مضى بعض الوقت، ثم رأيت محمد يدخل برفقة أبيه إلى المجلس. سألني أبوه: ما الذي حصل؟ ولم يبد أنه صدقني حين خرجت كلماتي المتقطعة، والممتزجة بالدموع. رفعني محمد إلى الأريكة مرة أخرى وجلس إلى جواري، فيما جلس أبوه في الجهة المقابلة، دموعه تتساقط على وجهه الذي غطاه بيده، ولسانه يلهج بالحوقلة وذكر الله. طلب محمد أن يحضروا لي بعض الماء. أعطاني كأس الماء. لم أشرب من الكأس. سكبت بعض الماء في يدي ونثرته على وجهي، فتبلل قميصي الأبيض. لم أعِ أن الكأس قد أفلت من يدي إلا حينما سمعت صوت الزجاج يتكسر على الأرض.
كان بعض الناس قد بدؤوا في القدوم. جلسنا في مجلس عمي حتى طلبوا منا أن نغادر باتجاه المقبرة. كنت لا أزال منهارا وأبكي، فيما بدا شقيقي حسن أكثر تماسكا مني. كان خالي الأكبر قد أصر أن يعجل بالدفن، حتى لو اضطر أن يفعل ذلك مساء. دخلنا المبنى الملحق بالمقبرة وجلسنا ننتظر حلول وقت صلاة المغرب. بعد الصلاة، وبينما نحن في الداخل، لمحت خالي (صادق) الذي لا أدري إن كان قد جاء للتو، أم أنه كان موجودا من قبل. كان يبدو مفجوعا، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها في تلك الحال. في تلك الأمسية، أمور كثيرة كانت (أول مرة) بالنسبة لي. فأنا لم أزر المقبرة من قبل إلا مرة واحدة برفقة والدي لقراءة الفاتحة على روح جدي، ولم يحصل أن حضرت أي جنازة أو تشييع من قبل.
لم يخبرني أحد أنهم أحضروا جثمان أبي لتغسيله وتجهيزه، وبقيت مع الآخرين في الداخل حتى دعونا للصلاة. خرجنا للصلاة يتقدمنا الشيخ (توفيق البوعلي)، وكانت أيضا أول مرة أحضر فيها صلاة الميت. بعد الصلاة، اقتربت من اللحد، وضعت يدي اليمنى على طرفه، فيما كان الشيخ يتلو الأدعية، وعادت دموعي لتنهمر على خدي. ما إن انتهى الشيخ من الدعاء، حتى حملوا النعش على الأكتاف ليسيروا به إلى الطرف الأخر من المقبرة، حيث مكان الدفن. مشيت خلفهم حافي القدمين، بينما كان عدة أشخاص يتناوبون على احتضاني كي أستطيع مواصلة المسير.
وقفت على مسافة، أراقب الناس، وكان المكان مزدحما. كنت أحاول مغالبة دموعي. كنت أحاول تهدئة نفسي. وأظن أني نجحت، حتى أنزلوه في القبر، وبدؤوا يهيلون التراب. حينها، انفجرت الدموع أسرع من قبل، وأخذت تحفر أخاديد على خديّ الشاحبين. لا أذكر إن كنا قد انتظرنا لوقت أطول، أم أنهم ربما قد سحبوني وأعادوني. كل ما أتذكر أنني قد عدت لألبس حذائي، ثم غادرنا المقبرة عائدين إلى المنزل. في المنزل، خلعت ملابسي التي كنت قد عدت بها من الرياض: بنطال جينز أزرق، وقميص أبيض. ارتديت ثوبا أبيض، واتجهت إلى المطبخ لكي أروي عطشي ببعض الماء.
في المطبخ، تراءى لي أن الزمان قد توقف في ذلك المكان. على سطح الموقد، كان هناك غدائي الذي جهزته لي أمي، ومن عادتها أن تحضر لي الطعام الذي أحب حين أكون عائدا من الرياض. وفي وسط المطبخ، كانت بقايا غداء أبي. جلست لبعض الوقت في ذلك المكان. حاولت أن لا أفكر في شيء. كنت لا أريد أن أتذكر شيئا. أردت أن يمضي الوقت بسرعة. لكن بدا أن هذا هو أعز ما يمكن أن يطلبه الإنسان في حال كهذا. لم يبد أن تلك الليلة كانت ستنتهي، فكلما ظننت أنها ستنتهي، وفد عزيز واحتضنني ليمزج دموعه بدموعي. كانت من أطول الليالي في حياتي.
نوافذ أخرى
تقتضي تقاليدنا أن يقوم أهل المتوفى باستقبال المعزين بدء من السابعة صباحا حتى موعد صلاة الظهر. ثم من بعد الظهر حتى المغرب تقريبا. تقرر أن تكون (حسينية الشواف) مقرا لعزاء الرجال (أو "الفاتحة"، كما نسميها). هذا الأمر لم يكن جديدا علي تماما، على أساس أن شهرا بالكاد قد مضى على وفاة عمي الأكبر حينها. في عزاء عمي، كان أبي يقعد في نفس المكان الذي أنا فيه الآن. كان أبي حزينا ومتعبا، وكانت المصيبة واضحة أوضح ما تكون في ملامح وجهه. حين جلست في مكانه، وبدأت أطالع حولي، رأيت أبناء عمومتي والآخرين وهم يقومون بأمر العزاء وخدمة المعزين. تذكرت أنني قبل شهر فقط كنت أقف معهم.
كان عزاء عمي غريبا بعض الشيء على أساس أنه توفي ودفن في مدينة قم المقدسة، إيران، فيما كانت فعاليات العزاء تجري في الأحساء. أبي الذي كان مفجوعا بوفاة عمي، وكان يمر ببعض المتاعب الصحية، رأى أن يحملني معظم المهام المتعلقة بأمر العزاء. كان العمل لكي يسير العزاء على ما يرام مرهقا. تقاليدنا لا ترحم أهل المتوفى الذين عليهم أن يقوموا بأمر العزاء على أكمل وجه وهم في غمرة أحزانهم. انغمست في العمل قدر ما أستطيع، لكي أتشاغل عن حزني. وبمساعدة أبناء عمومتي وتعاون الجميع، مضت أيام العزاء بسلاسة. لم أستطع حضور آخر يوم من العزاء لأني كنت مضطرا للمغادرة إلى الرياض.
لا أتذكر تحديدا متى كان ذلك، لكنني سمعت أمي تخبر أحدهم أن أبي قد قال لها أنه حين كلفني ببعض أمور العزاء، لم يكن يتوقع أن أكون قادرا على حمل العمل. قال لها: أنا سعيد بأنه أصبح رجلا. لقد أصبح قادرا على تحمل المسؤولية. ردت عليه أمي: إنه ابنك. تربيتك أنت. بقدر ما شعرت بالفخر حين سمعت ذلك الكلام، شعرت بالحزن. مرت علاقتنا أنا وأبي بأوقات صعبة، خصوصا أيام مراهقتي، حين كنا بالكاد نكلم بعضنا. لكن بعد أن نضجت قليلا، تحسنت علاقتنا كثيرا، وأصبحت أكثر خصوصية وحميمية. من المؤسف أن القدر لم يمهلني لكي أتقرب عليه أكثر. سيكون هذا الأمر أحد أكثر الأمور التي أندم عليها طوال ما تبقى من عمري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق