الخميس، ١٥ محرم ١٤٢٦ هـ

تلك الصبيحة الباردة من يناير

حين هاتفني شقيقها ، قال لي بلهجته التي تبدو مستثارة في كل الأوقات: (أنت لا تحتاج إلى دعوة...). حاولت، دون جدوى، التظاهر بالصدق، ولم أعرف. ما أعرفه اكتفيت بترديده بيني وبين نفسي: (مناسبتان لا يحتاج فيهما الإنسان إلى دعوة: ولادته وموته).

* * *

ودعتني برفق شديد. رفعَتْ يدي إلى أن لامست وجهها، ثم سالت من شفاهها كلمات أشبه بالهمهمة: (أشوفك). بدا ردي غريبا عن جو اللقاء الذي سبق. قلت بصوت مكهرب ومتقطع: (أوكي، أشوفك). انتظرت على أبرد من الجليد أن تدخل المنزل. كنت أحاول ضبط إيقاع ضربات قلبي على وقع خطواتها. غريب كيف نحفظ أجساد نساءنا من وراء العباءة؛ فلوهلة الرائي الأولى يظن أن كل النساء متشابهات في قطع السواد تلك. هل هي أعيننا، أم هي أفئدتنا التي تحفظ كل انحناءة وكل ثنية في تلك الأجساد؟
فتحت الباب الذي أعلم كم هو قاس على يديها الضئيلتين التين احتضنتا يدي من لحظات. التفتت ولوحت بأصابع يمناها الأربعة. رفعت كفي على عجل، واختفت هي وراء ذلك الباب الحديدي الأسود الموشى بالزجاج المبرغل. انزلقت يدي على ناقل الحركة بتثاقل. خطر لي أن أبقى في ذلك المكان الذي ألفني لبضع دقائق ريثما يحاول عقلي الخروج من هالتها، لكني أجبن من أخاطر هكذا. مضيت على مهل، وعبقها لا زال يدغدغ خمس حواسي: يحتضنها ثم يبتعد، ثم يعود، ليبتعد.
هدوء الشوارع على درب العودة حرض ذاكرتي على محاولة عقد مقارنات مكروهة بين هذا الموعد ومواعد أخرى مضت مثله. أعلم أنها ليست على ما أروم وتروم، وأحاول جهدي ما استطعت تطمين جوارحها التي أشعرها في مطلق توترها حين أهاتفها كلما كانت أنفاسي مستمرة حتى أقدر أن أكلمها براحة. حانقة وراضية وغير مكترثة في الوقت ذاته. نشترك، فيما نشترك، في صفة جمع متناقض المشاعر.
في كل مرة كلمتها بعد ذلك الموعد، كنت أحاول الشطط بها قدر الإمكان عما قد يكدر صفو أنفاسها المتفاوتة الأطوال. أسألها عن حالها، فتجيب بصوتها ذي الرعشة الرقيقة، كما لو كانت تمرر وردة على ذقني التي لم تحلق منذ أربعة أيام: (الحمد لله، بخير. انت عارف). هل وددتُ أحيانا لو لم أكن أعرف؟ لو كنت غافلا كنبتة بحر في زاوية مظلمة من قاع محيط لم يصله أحد؟
هاتفتني ذات صبيحة باردة من يناير. كانت تهوى الاتصال بي صباحا. تستيقظ باكرا كعصفورة، وتكون في مزاج رائق، ويكون صوتها أرق ما يكون -- أو هكذا هيأ لي. لم تقل (صباح الخير) كعادتها، فلم أستطع أن أرد بـ(صباح الورد) كعادتي. ران صمت كصمت البيد لوقت لما أستطع تقديره. لم أعرف ماذا أقول، فأنا لا أجيد البدء بالكلام، ولأنها تعلم ذلك، كانت هي دائما من يبتدئني بالكلام. تغرف من داخلي ما تشاء وأنا مسلم لها. حين أكون معها يعتريني كنه لا أستطيع بسط طلاسمه.
بعد الصمت نادتني باسمي، علي غير عادتها. نحن لا ننادي بعضنا بأسمائنا. نوغل في عقولنا وقلوبنا وحقولنا المحرمة لساعات طوال دون أن ينطق أحدنا باسم الآخر. لا أعلم إن كنت توجست أم لا. عاد صمت كالذي سبق كلمتها الوحيدة. تصنمت في مكاني، وسكت صوت الشوارع الذي كان يئن في أذني اليسرى مثل طفل عطشان. جاء صوتها كصرير باب بيت (الكوت) القديم: (خلاص.. انتهى كل شي). أغمضت عيني على كلماتها، وخرج هواء ساخن من أنفي. أحسست بمرارة في حلقي تمنع الكلمات من العبور. لا أدري كيف خرجت تلك الكلمتان: (ما عليه...). كنت أوهن من أن أضيف شيئا، ولم تكن هي قد اتصلت لتسمع. كانت كلماتها أشبه بخبر موت أحدهم: لا يمكنك فعل شيء بشأنه. لم تزد شئا.
لست واثقا إن كنت قد سمعت عبرتها. لا أذكر تحديدا. أظنها سارعت لإغلاق الخط قبل أن أسمع دمعها ينهمر على عارضيها. أسقطت الهاتف على المقعد الجانبي. حارت بي نفسي: هل أحوقل كما يفعل المثكولون؟ اعتصرت وجهي بين يدي، فتذكرت ملمس وجهها: الوجه الذي يسكن فيه فرحي، ألم يعد ذلك مسكنه؟ حملت يدي إلى ناقل الحركة بتثاقل، ومضيت على مهل في درب أجهله.

هناك تعليقان (٢):

  1. السلام عليك..

    انا من متابعين بلوغك الانجليزي و كم يسعدني انك ايضاً تكتب بلغتنا العربية الجميلة... فنادر من يتقن اللغتين..

    متمنية لك التوفيق

    ردحذف
  2. غير معرف٢٩/١/٢٦ ٠٣:٤١

    وددتُ أحيانا لو لم أكن أعرف؟ لو كنت غافلا كنبتة بحر في زاوية مظلمة من قاع محيط لم يصله أحد؟
    هاتفتني ذات صبيحة باردة من يناير. كانت تهوى الاتصال بي صباحا. تستيقظ باكرا كعصفورة، وتكون في مزاج رائق، ويكون صوتها أرق ما يكون -- أو هكذا هيأ لي. لم تقل (صباح الخير) كعادتها، فلم أستطع أن أرد بـ(صباح الورد) كعادتي.

    كانت هي دائما من يبتدئني بالكلام. تغرف من داخلي ما تشاء وأنا مسلم لها. حين أكون معها يعتريني كنه لا أستطيع بسط طلاسمه.


    جاد قلبك بما يفوق الإجادة
    وكأنك تجسد قصتي...بل مأساتي
    لطالما لوحتُ لها بالرحيل وكأني كنت أقرأ قدري ولكن بالمقلوب!
    طالما كانت تستوقفني بحرقه...لا تنطق بها ثانيه...وفجأة حدث مالم يكن في حسبان أي منا ...رحلت هي!!! دون أن تقول لي وداعاً...كانت هذه آخر نبضات قلبي..الذي أصبح هائماً في ذكراها وإن توقف نبضه.
    نسيت أن تعيد لي روحي قبل ان ترحل إلى حيث لا أعلم...لكن عزائي الوحيد أن روحي معها.
    تباً لك يا روح، يالك من جاحده
    تعيشين في أثواب النعيم معها
    وتتركيني هائماً في العتمة!

    ردحذف