الخميس، ٢٩ محرم ١٤٢٦ هـ

حتى حين، على الأقل

يعتقد «داني» أن الحب غاف على تخوم القرى. يعتقد أن المدينة مزدحمة بكل شيء إلا الحب. ويستغرب من القول أن «الروايات تولد من رحم المدن». أي رواية هذه التي تولد في المدينة؟ رواية بلا حب؟ يحلم بأن يكتب رواية عن حب في إحدى القرى، لكنه حلم مؤجل يختفي في صندوق الأوراق الصغير، حيث تتكدس أحلامه الأخرى.
يقول بعض أهل القرى أن قراهم أصبحت أضخم من أن تسمى قرى. وأنها أصبحت تلتصق ببعضها، وأن أهل المدينة سيستيقظون ذات صباح وقد أصبحت القرى جزءا من مدينتهم. يكره داني الإقرار بذلك، لكنه يقر بأنه بالكاد يدرك كيف يكون شارع واحد بعرض 40 مترا هو الفاصل بين قريتين.
لذلك، ولغيره، يتعلق داني بالقرى الأبعد عن المدينة والأقرب إلى الصحراء. تلك القرى التي ما إن يترك منازلها المتواضعة خلف ظهره حتى تلوح النجوم بارقة في الأفق. لطالما ظن أنها تغني للعاشقين حين يختلون، ويختالون بعشقهم. ويظن أنه لن يستطيع التحقق من ذلك حتى يقع في العشق.
لا يجد غضاضة الآن في أن يعترف بارتياحه في الصحراء. كان فيما مضى يجيد السخرية من «بدو المدينة»، الذين ما إن يجدوا الفرصة حتى يفروا إلى «البر». أما الآن، وقد بلغ مبلغ العشق، فقد اختلف الأمر تماما بالنسبة له.

يهوى الصحراء في المساءات المقمرة تحديدا. ما إن توافق «الليالي البيض» نهاية أسبوع حتى يبادر -- رغم خجله الذي لا يعرف مكمنه -- إلى الاتصال بصديقه القروي. هذا القروي هو رفيق بيداءه، «حتى حين، على الأقل. حين يدعوني داعي الهوى، سأقضي هنا أوقاتا أطول معها. لا يخالط نفسي شك في ذلك أبدا».
حين يذهبان بسيارة الدفع الرباعي التي يُشق غبارها في شوارع المدينة، في حين لا يبدو أن غبار الصحراء ينشق عنها أبدا، يتوجهان إلى كثيب صغير تظن أنه قد تاه عن بقية سرب الكثبان حين غادرت على عجل خوفا من وحوش الاسمنت والاسفلت.
ينشر صديقه «تميم» البساط المربع الصغير ذي الألوان المتداخلة إلى جوار السيارة، لكن داني لا يطيل الجلوس عليه. سرعان ما يخلع حذاءه الفضي اللامع، ويسير بضع خطوات مبتعدا، فيما تميم يعد مائدة العشاء الذي أحضراه من مطعم غير مميز. يستمتع داني بالرمال الناعمة تغوص فيها قدماه. يراقب أطراف المكان من وراء نظارته. يرفع ناظريه إلى السماء فيظن أن أميرة أحلامه نثرت ماساتها على مخمل أزرق. لا يستعيذ ولا يستغفر. يلتفت نحو صديقه فيعن له خاطر مخيف. «ما الذي يجمعنا على أي حال؟ نحن جد متباينان. أنا، ابن المدينة المتكلف الذي لا يرى في المدينة رغم ازدحامها أحدا. أنا الذي يظن أن الحب غاف على أطراف القرى دون سعي للبحث عنه، على أمل أن أتعثر به أو يتعثر بي يوما. بهيئتي الهيبية، بالتي-شيرتات المتطرفة العبارات، وبنطال الجينز الأزرق، والأحذية المنحازة الألوان. وهو. القروي الفخور بقريته وقرويته. الرجل البالغ الذي يهضم التطور على مهل. رجل، مثل كثير ممن هم في عمره، يحترك بين رحى الحياة لكسب العيش، وإسكات هاجس حياة أفضل.»
الصداقة أكثر تعقيدا من الحب، وهذا تحديدا ما يعجبه في هذه العلاقة. يتعلق داني بالاختلافات في الصداقة، ويعتقد أن الاختلافات هي ما يعطي كل صداقة تفردها.

في تلك الليلة من غرة شعبان، لم يكن القمر مؤاتيا ليلطما خد الصحراء. اقترح تميم مقهى جديدا في القرية. «إنه أول مقهى في «البلد»». تثاءبت ابتسامة ساخرة على وجه داني. تضحكه تلك الطريقة التي يسمي بها القرويون مكان إقامتهم «البلد». ويُخيل له أحيانا أن جميع أهل القرية هم أقرباء لتميم. «حين يتحدث عنهم يبدو وكأنه يعرفهم فردا فردا». رغم حضور بعض الرطوبة، فضل أن يجلسا على طاولة في الخارج، بدلا من الإضاءة الداخلية الخافتة الملوثة بدخان التبغ.
الحقيبة النفطية اللون التي يحملها معه هي محط أنظار الناس -- أو «كائنات الشوارع»، كما يحب تسميتهم -- أينما حل. وكأن هيئته وملبسه غير كافيبن للفت الأنظار، لا ينفك عن حمل هذه الحقيبة التي تحمل كمبيوتره المتنقل، وكتابا أوكتابين، ودفترا وقلما وكاميرا. «أكره استخدام الكمبيوتر في الأماكن العامة. أحمله تحسبا للطوارئ فقط.» يبتسم تميم ويسأله: «أي نوع من الطوارئ هذا؟» لا تتغير ملامح داني وهو يجيب: «لو كنت أعلم لما كان اسمها طوارئ».
غاصت عينا تميم في الشاشة الصغيرة، فيما حاول داني أن يوجد وجوه الاختلاف بين تلك الجلسة في مقهى القرية الصغير، والجلسة الخارجية لمقهى «ستاربكس» في شارع العليا الفاره في الرياض. «السيارات هنا صغيرة وقديمة. يقودها آباء مع عائلاتهم، أو شباب مع أصدقائهم. في الرياض، السيارات ضخمة وفخمة، ويقودها سائقون آسيويون. تستطيع أن تستنشق رائحة النخيل تمتزج مع رائحة البن هنا، فيما تطغى رائحة أول أكسيد الكربون على كل شيء هناك.» جاء النادل بالطلب بعد عشرين دقيقة. شاي مثلج لداني، وشاي «كلاسيك» لتميم. «انتبه كي لا تسكب شرابك الساخن على كمبيوتري» قالها داني بتململ واضح وهو يواصل تأمله في الشارع المقابل.

مضى الوقت كما يمضي عادة. كلما مرت بضع دقائق، كان داني يرفع رجله اليمنى فوق اليسرى، ثم يعيدها أرضا. ذقنه كانت تستلقي على كفه اليمنى بثبات. بدا مثل فيلسوف هرب منه الإلهام. لاحت في بداية الشارع عباءتان سوداوان. كانت الأولى أقصر وأسرع، فيما كانت الثانية الأطول قامة تمشي أبطأ قليلا وكأنها تخشى سقوط شيء منها. حين اقتربتا منه لم يلمس أنفه، ولم يضع يده في جيب بنطاله. كان قد أسر لصديق من قبل إعجابه بذلك النوع من الفتيات. «أحب الفتاة الخجول التي تسير وراء أمها ورأسها مطأطأ إلى الأرض. أحب حياءها وبراءتها. أفتقد هذه الأمور في كثير من شؤون حياتي مؤخرا». التفتت السيدة التي في الأمام وقالت بصوت أمومي جلي: «أسرعي يا منتهى». داني، الذي لا يظن أنه استثناء في شأن النظر إلى الفتيات، لم يحظ بما يحظى به عادة في مناسبة كهذه.
استطاع أن يلمح في يد الفتاة اليسرى كتابا ظن أنه رآه من قبل. (الجامعة العربية المفتوحة - 202 عرب – الأدب العربي). تذكر سؤالا كان يحوم في رأسه منذ سنين: «الجنسان مأموران بغض البصر، لكن يبدو أن هذا الأمر مطبق على الذكور فقط. لماذا لم أسمع أحدا يشدد على أمر الفتيات بغض البصر؟ هذا تمييز جنسي ضدنا.» لم يجرؤ داني على طرح هذا السؤال على أحد. سارع لطرد السؤال من مقدمة رأسه إلى زاوية قصية منه. «حتى حين، على الأقل».

كان تميم يمعن النظر إلى صور التقطها داني أثناء حملات المرشحين للانتخابات البلدية التي جرت مؤخرا.
- «أنت تكثر من التقاط الصور؟»
- «إنني أبحث عن الجمال فحسب.»
سكت قليلا ثم أضاف: «ولهذا امتنعت عن التصويت في هذه الانتخابات: لم أر أي مرشح جميل. لم يكن في جميع وجوه هؤلاء الرجال أي جمال على الإطلاق.» قهقه تميم إلى درجة جعلت الهواء الرطب يتحرك إلى أعلى. استدارت بعض الأعناق لترى ما الذي يجري، لكنها سرعان ما عادت أدراجها. أكمل تميم تنقيبه في الكمبيوتر وأغلقه وهو يقول فيما بدا كسؤال: «ينطوي هنا عالم آخر.» لم يبد داني اكتراثا لما قاله صديقه. عدل من جلسته محاولا أن يهز طيف تلك الفتاة في رأسه كي ينساه، ولمّا أيقن أنه لم ينجح، قال: «shall we?». كانت المرة الأولى التي ينطق فيها كلمات بالانجليزية خلال تلك الجلسة. لسبب لا يدركه، يجد داني نفسه يستخدم كثيرا من الكلمات الإنجليزية أثناء كلامه مع تميم. ذلك لم يكن الاستثناء الوحيد في تلك الليلة. لكنه لم يدرك ذلك أيضا.

حين عاد إلى سيارته الصغيرة، تذكر كلاما كثيرا يريد قوله لتميم لكنه لم يقله. «ليست المرة الأولى. هذا يحصل دائما.» كان صوت مغني فرقة Maroon 5 ستيفن ليفي ينبعث من مؤخرة السيارة، وفيه نبرة حزن تتحرك مثلما تتدحرج قطرات الماء على معطف مطر. لم يعر داني اهتماما لعزف الغيتارات. كان يفكر في تلك الفتاة بدون أن يرى مبررا واضحا. يقول: «so what?، إنها مجرد فتاة أخرى. إحدى كائنات الشوراع فحسب» ثم يستدرك: «حسنا، ربما كان فيها شيء مختلف. لا أعلم تحديدا». كانت الخواطر المتناقضة ترقص بتناغم في رأسه. لم يعِ إلا وهو على مشارف المدينة. مرت 25 دقيقة، وتخطى بضع قرى وهو لا يتذكر أي شيء من ذلك. يحصل له ذلك بين فينة وأخرى، ولا يصدق أنه خرج من تلك الغفلة دون حادث.

بعد مرور أسبوع على جلسة المقهى، تردد داني كثيرا في أمر الذهاب إلى نفس المكان مرة أخرى. «ليس لدي عمل لأقوم به هذا المساء على أي حال»، ثم يستدرك: ماذا عساني أفعل هناك؟ لا يعقل أن أراها مرة أخرى في نفس المكان والوقت. هذا مستحيل». كان يراوح أمره بين الرأيين مثل بندول ساعة صدئ؛ يتحرك ببطء شديد مع بعض الأصوات. مثلما يفعل في أمور أخرى، ترك التفكير حتى لحظة الحدث. «لنرَ ما يحدث في الساعة الثامنة». ما الذي حدث؟ ذهب إلى المقهى دون أن يفكر في الأمر. جلس على نفس المقعد، وطلب نفس الشراب. قال لنفسه: «أنا جالس هنا لأمضي بعض الوقت فقط.» أخرج كتابا من الحقيبة، وفتحه من حيث توقف. عند أول كلمة من الصفحة 32 تسمرت عيناه. أغلق الكتاب ووضعه أمامه مثل من ينتظر طعاما ساخنا أن يبرد. رغم إنكاره، فقد جاء هنا لينتظر. كان يخشى أن ينشغل في سطور الكتاب فلا يلحظها حين تمر من أمامه. «كانت أجمل ما في تلك الليلة. كانت ذروة جمال القرية بلا جدال.» كان يعلم أن الورود قد تنبت في الأرض المالحة، لكن لم يخطر على باله أبدا أنه قد يرغب في قطف إحداها ذات مساء. ليوهم نفسه بأنه لم يكن ينتظر، وضع مجهارات مشغل الموسيقى iPod في أذنيه، وانسكب نهر من الأغنيات المتناقضة: Dido – White Flag، راشد الماجد – رعبوب، فيروز – زوروني كل سنة مرة، Westlife – The Way You Look Tonight، Avril Lavigne – He Wasn't، سامو زين – أنا ليك...

كنائم روعه كابوس مزعج، فتح عينيه محاولا حساب الزمن بين مرور سيارة وأخرى. كان الفاصل طويلا إلى درجة أن اعتراه السأم فتوقف عن الحساب. كان يتعمد أن يتجاهل النظر إلى الجوال كي لا يعرف كم الساعة، حتى أرغمه رنين الجوال على ذلك: 22:30. «لا، إنني بعيد قليلا. سآتي الآن، حسنا حسنا.» لملم جسده ببطء رغم عجلته، وغادر وهو يتمتم: «كنت أعلم أن لا أمل في ذلك. هل أنا أحاول التعلق بخيوط الضوء؟». عاد إلى المنزل، وأهوى جسده – الذي لا يحبه – على السرير العتيق. بذل كل جهد ليبقى ساكنا حتى لا يوقظ صرير السرير القادم من تحته. نجح في ذلك. فتح عينيه في الظلماء، ثم أعاد إغلاقها بسرعة. بدا وكأنه يسترق بعض السواد ليخفف الضوء داخل عينيه. «كنت أعلم أن هذا مستحيل، ومع هذا ذهبت. أنني مثير للشفقة.» حاول أن يراها في المنام، ولم يستطع.

رفيع ذلك الفاصل بين ما يعلم وما لا يعلم. البعض يعتقد أنه مجنون، والبعض الآخر يعتقد أنه عبقري. هو يظن أن العبقرية هي أكثر أنواع الجنون تطرفا، «كما يمكن للعبقرية أن تقود إلى الجنون أحيانا.» حين استيقظ ضحى، جلس على طرف السرير لبضع دقائق حتى لا يصيبه الدوار إن هو قام على الفور. «معظم الناس لا يعرفون هذا. التحرك بشكل مفاجىء بعد الثبات على وضع معين لفترة طويلة يسبب انخفاضا شديدا في ضغط الدم، وهذا يؤدي إلى الإصابة بالدوار.» أخذ ينظر إلى الوسادة دون أن يخطر على باله شيء.

بذات الطريقة، تكرر الأمر بعد أسبوع. حين هم بمغادرة المقهى، صرخ في داخله وهو يقبض يده على نفسها بشدة كأنه يخاف أن يطير الهواء من بين أصابعه: «لأي درجة من الحماقة يمكن أن أصل؟» تعمد أن يرفع صوت الموسيقى في السيارة إلى الحد الأقصى كي لا يفكر في شيء. ومضت غفلة أخرى دون حادث. هاتفه تميم بعد يومين ليسأله عن غيابه طوال الأسبوعين السابقين.
- «كنت منشغلا بعض الشيء.»
- «هل أنت متأكد أنك بخير؟»
أجاب داني بطريقة عادية رغم غرابة السؤال:
- «نعم، نعم. أنا بخير.»
- «حسنا...»
استجمع داني أنفاسه، وسأل تميما كما لو كان ينتزع ضمادة عن جرح كاد أن يلتئم:
- «هل تعرف فتاة في قريتكم اسمها منتهى؟»
لم يبد أن تميما احتاج كثيرا من التفكير ليجيب: «نعم. لماذا تسأل؟» احتاج داني كثيرا من التفكير حتى بدا واضحا أنه يختلق كذبة: «لا شيء. سمعت أن حد أقاربنا سيتزوج فتاة من قريتكم تحمل هذا الاسم.» تغير صوت تميم قليلا: «مسكين قريبك هذا؟» كان صوت داني أصدق بكثير هذه المرة: «لِماذا؟!» أكمل تميم: «منتهى ماتت في حادث قبل عشرة أيام. كانت تستقل حافلة صغيرة إلى الجامعة مع ست زميلات لها. قتلت الفتيات السبع، ونجا السائق. إنها من أكبر المصائب التي حلت بالقرية منذ سنين. ألم أخبرك عن هذا الأمر من قبل؟...» عقد الصمت لسان داني لثوان غير معدودة. حاول أن يبدو غير متأثر: «عظم الله أجركم.» لم يلق بالا إلى جواب صديقه. احتاج أن يختلق كذبة أخرى. «لدي مكالمة أخرى على الانتظار. أكلمك لاحقا. إلى اللقاء.»

أحيانا تربكه الحياة بتلوناتها. ليس من المفترض أن يحدد مشاعره حيال أمر ما. مع ذلك، يحار أحيانا في اختيار شعوره إزاء بعض أحداث حياته. «هل يجب أن أكون حزينا؟ لماذا؟ لقد رأيتها مرة واحدة فقط. لماذا تعلقت بها؟ هل تعلقت بها حقا؟ هل هو أمر يجب أن أتخطاه وأقول: هكذا الحياة؟ هل الحياة هكذا فعلا؟» أسئلة الوجود ليست لعبة اعتاد أن يلهو بها كل يوم. حين تعصف به مدلهمات العيش يكون كطائر صغير بلله المطر؛ يعلم أن قادر على الطيران لاحقا، لكن ليس دون أن يتعثر ويتعطل. يعتقد أنه صخرة في منحدر، وأن الحياة شلال من المياه؛ كلما زادت قساوة المياه على الصخرة، أصبحت أنعم وأرق.

احتاج بضعة أيام ليسترد عافيته تماما. حين اتصل به تميم بعدها ليدعوه إلى شراب في المقهى، سأله إن كانا يستطيعان قصد مكان آخر: «ما رأيك أن نذهب إلى البر؟ لا أريد زيارة ذلك المقهى.» أخذ فاصله المعهود من الصمت ثم أتم كلامه: «حتى حين، على الأقل.»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق