الخميس، ١٦ ذو القعدة ١٤٢٧ هـ

من تراثنا

منذ صغري لم يكن ولعي بالقراءة يخفى على أحد، وكنت بين وقت وآخر أتكلم مع والدي ـ رحمة الله عليه ـ حول ما أقرأ فكان يقول لي: من الجيد أنك مهتم بالقراءة، ولكنني أتمنى أن تخصص بعضا من وقتك لقراءة كتب الدين والتراث. لم يكن أبي يقصد دفعي ناحية التدين ـ رغم أننا نأتي من خلفية متدينة إلى حد ما ـ بقدر ما كان يود أن أوسع مداركي بحيث تشمل عوامل كانت ولا زالت مؤثرة في تشكيل واقع مجتمعنا. في ذلك الحين لم أشعر بميل نحو قراءة ذلك النوع من الكتب، وكان من حسن حظي أن والدي نادرا ما أرغمني على شيء.

قبل عامين تقريبا عنَّ لي خاطر أن أجعل لكتب التراث نصيبا من قراءاتي. لم أعرف بِمَ أبدأ، ولم أجد أي اقتراحات ملفتة للنظر عند من سألتهم. ذهبت إلى «مكتبة جرير»، وأخذت أخبط خبط عشواء فوقعت على كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم. كنتُ قد سمعت عن هذا الكتاب من قبل، لكنني لم أتذكر تماما ما سمتعه عنه، لكن بما أنه كان رخيص الثمن فلم أبذل مزيدا من الجهد في محاولة التذكر، واقتنيته دونما عظيم اهتمام.

أخذ الكتاب مكانه على الرف وقبع هناك لفترة قبل أن ألتقطه، لكن ما إن بدأت القراءة حتى وجدت نفسي واقعا تحت سطوته! هنا كتاب تراثي يتناول موضوعا لم يكن يخطر على بالي أن أجده في هكذا كتاب: بضع مئات من الصفحات التي لا تتحدث عن شيء سوى الحب والمحبين، والعشق بمختلف أجواءه وأهواءه وأحواله؛ ومن مؤلفه؟ رجل دين! فقيه أندلسي محترم يعتبر أحد أهم علماء عصره بلا أدنى مبالغة. لا أريد التكلم كثيرا عن تفاصيل الكتاب، لكنني أنصح بقراءته بلا تحفظ لكل من تجاوز الثامنة عشر. حين أفكر في أن فقيها مثل ابن حزم قد وضع مؤلفا في الحب والعشق، أو أقرأ كتابا مثل «الإلمام بغزل الفقهاء الأعلام» لغازي القصيبي، لا أملك إلا التحسر على حال التجهم والعبوس والتشدد البادية على كثير من رجال الدين في عصرنا هذا.

يقول ابن حزم فيمن انتقده لتأليفه هذا الكتاب:

يقولون: «جانبتَ التصاون جَملَهُ
وأنت عليمٌ بالشريعة قانتُ»
فقلت لهم: هذا الرياء بعينه
صُراحا، وزيٌ للمرائين ماقتُ
متى جاء تحريم الهوى عن محمدٍ؟!
وهل منعه في مُحكم الذكر ثابتُ؟


ويقول في موضع آخر من كتابه:

خريدةٌ صاغها الرحمن من نورِ
جلّت ملامحها عن كل تقديرِ
لو جاءني عملي في حُسنِ صورتها
يوم الحسابِ ويوم النفخ في الصورِ
لكنتُ أحظى عباد الله كلهمُ
بالجنتين، وقربِ الخرّدِ الحورِ


وبما أنني قد أوردتُ شيئا من شعر الغزل هنا، فلعل من الملائم أن أذكر قصة أوردها الأصفهاني في كتابه المشهور «الأغاني» عن شاعر وصِف بأنه أفضل من قال شعر الغزل على الإطلاق، وهو عمر بن أبي ربيعة. سكن هذا الشاعر القرشي مكة المكرمة، واشتهر بأنه كان ينتظر مواسم الحج والعمرة ويتحين الفرصة ليتعرض للحسناوات ممن قصدن بيت الله الحرام. لستُ في وارد أن أضع نماذج من شعره – ولعل ذلك يحدث لاحقا حينما تحين الفرصة – لكن بحثا سريعا في غوغل قد يكون كافيا ليكمل لك الصورة عن شاعرنا. لكن قبل أن آتي على القصة أود التذكير بأن عمر بن أبي ربيعة لم يُجلد ولم يُسجن ولم يُكَفر قط، بل ظل يعيش في مكة حتى توفاه الله فيها عن عمر ناهز الثمانين عاما. صورة بلا تحية إلى أساطين الرقابة والإرهاب والتكفير في أيامنا هذه. والآن، دعوني أختتم بالقصة التي أشرت إليها آنفا:

كان بالكوفة رجل من الفقهاء تجتمع إليه الناس فيتذاكرون العلم، فذُكر يوما شعر عمر بن أبي ربيعة فهجنه. فقالوا له: بمن ترضى؟ ومرّ بهم حمّاد الراوية فقال الفقيه: قد رضيت بهذا. فقالوا لحمّاد: ما تقول فيمن يزعم أن عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئا؟ فقال: أين هذا؟ اذهبوا بنا إليه. قالوا: نصنع به ماذا؟ قال: ننزو على أمه لعلها تأتي بمن هو أمثل من عمر.

هناك ٣ تعليقات:

  1. كتاب طوق الحمامه ممتع جدا لما يحويه من اشعار تحملنا الي اجواء الاندلس
    تحياتي

    ردحذف
  2. في بداية رغبة والدي في ان أتحول لقراءة الكتب الكبيرة، والتحول عن قصص الأطفال، كان يجلب لي الكتب التراثية، أبرزها "الأغاني" و"العقد الفريد" لابن عبد ربه.. كنتُ في مرحلتي المتوسطة آنذاك، ومضى وقت طويل وأنا لا أكاد أتجاوز هذا الصنف من القراءة..
    أعتقد أن القراءة في الكتب التراثية في الصغر، تصقل اللغة كثيراً، وتضعك في قلب العربية الأصيلة..

    الآن أحاول أن أرغب اخوتي بقراءتها، لكن يبدو أن للمجلات الفنية والرياضية إغراء لا يمكن مقارنته بكتب مرعبة بضخامتها بالنسبة لمراهقين لم يتفرغ والدي لزرع الكتاب فيهم كما فعل معي!


    على الهامش..
    هذه التدوينة لا تعفيك منالواجب!

    ردحذف
  3. اهلا احمد
    جميل انك قرات طوق الحمامة ويجب ان تشكر الله على ان الكتاب متوفر في مكتباتنا وطبعا لا اشك في ان ما قرأته نسخة منقحة من الكتاب الاصلي

    ملاحظتك عن فقهاء زمان صحيحة وللاسف اصبحت صورة رجل الدين عندنا تدعو للرثاء بما هو عليه من تجهم وكراهية للحياة

    ابن حزم له افكار تقدمية جدا بمقاييس زمننا ، وبالمناسبة حبذا لو قرأت كتاب ابن القيم اخبار النساء فهو بلا شك اكثر جرأة وطرافة من طوق الحمامة في بابه ومضمونه. ولا تبحث عنه عندنا بل حاول ان تجلبه من مكتبات البحرين او دبي

    تحياتي

    ردحذف